تم النشر في الأحد, 23 يونيو 2019 , 07:45 صباحًا .. في الأقسام : أهم الأخبار , غير مصنف , مقالات
من لوحات كاتب الروايه عن الاسواق والناس في الماضي
الحلقة الثاننية عشرة من رواية ( عين الحريم ) للاستاذ أحمد المغلوث
أبن بطوطة
بعد مرور ساعات على عودته من السوق حاملا مقتنياته من المجلات.. يأتي وقت العشاء، وبعدها يجتمع مجلس خاله، كالعادة. وبعد سماع بعض برامج الإذاعات .. جاء وقت حديث أستاذ التاريخ عن أبن بطوطة إجابة عن سؤاله :
كانت مهمة رصد حديث الأستاذ عن أبن بطوطة تشكل له فتحا جديدا بالنسبة له لأنه يرصد ما يقوله أو يمليه الأستاذ وهو مرتاح .. يجلس متربعا و دفتره الذي هو عبارة عن دفتر سجلات تجارية كان حصل عليه من والده بخطوطه ذات اللون السماوي الباهت.. وقلمه السائل الباركر ..وراح يكتب ما يمليه عليه الأستاذ : أبن بطوطة هو شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي المعروف بابن بطوطة: ولد أبن بطوطة في طنجة بشمال افريقية عام 703هت – 1303م وتوفى عام 777هـ -1377م في مدينة فاس.. وقد عرف من كتابه الذائع الصيت الموسوم وقد كشف أبن بطوطة في كتابه هذا عن جوانب ممتازة عن الحيوان في بقاع الأرض المختلفة التي حط الرحال فيها ..وكتاب أبن بطوطة ما هو إلا مضمون الرحلات التي قام بها هذا العالم .. وخرج أبن بطوطة سائحا عام 725هـ وكان له من العمر اثنان وعشرون عاما فزار مصر ومكة المكرمة والعراق وفارس وعدن والهند وعمان والأناضول والاتحاد السوفيتي وبلوخستان والصين وسوريا وبعض جزر البحر الأبيض المتوسط والسودان والحبشة وعاد لمدينة فاس في المغرب بعد أن قضى في رحلاته هذه أربعا وعشرين سنة .. ألخ هكذا كتب صاحبنا إجابة على سؤاله عن أبن بطوطة .. وعيون وأذان الحضور في مجلس خاله تتابعه وهو يكتب .. فكانت تجربة جيدة بالنسبة لصبي صغير . نعم كانت هذه التجربة جديدة عليه بكل المعايير فهو ورغم أن لديه بعض الأخطاء الإملائية إلا أنه يعتبر أفضل من أقرانه الذين في سنه إضافة إلى أن هذه التجربة ساعدته كثيرا على تعود الكتابة والرصد وبصورة سريعة لا مجال فيها للتردد .. فضلا عن إنها ساعدته كثيرا في عمله الصحفي والإعلامي فيما بعد..
(الكنز الثمين)
اهتمام صاحبنا بالصحافة، والكتابة، بدأ مبكرا. ففي المدرسة الابتدائية حيث كان احد المحررين في صحيفة الحائط.. وبعدها بدأ يبعث ـ وعن طريق البريد ـ بكتاباته ومحاولاته الأولى والتي نشرت في الصحافة المحلية، بل وحتى الصحافة العربية.. ويعزو صاحبنا تحسن أسلوبه في الكتابة إلى القراءة الدائمة .. والاطلاع المستمر .. بل إنه لم يتردد يوما في أن يشتري مجلة أو كتاب بدلا من شراء قطعة حلوى.. يذكر انه وجد يوما كمية كبيرة من المجلات القديمة، المستعملة في سوق الخميس فلم يتردد في شرائها بكل ما كان يمتلك من نقود.. مما جعله يعود إلى مدينته سيرا على الأقدام حاملا كنزه الثمين على رأسه أختار أن يسلك أحد الطرق الزراعية بين الحقول والواصلة بين مدينته ومدينة الهفوف، حيث يقع سوق الخميس، لذلك سلك طريق عين مرجان الشهيرة، بدلا من الطريق العام حتى لا يراه احد فينظر إليه بسخرية وهو أبن ..( أسرة معروفة ) سار الصبي حاملا كنزه يحث الخطى بين أشجار النخيل الباسقة .. يشعر بثقل الكرتونة على رأٍسه ويده اليمنى ممسكة بطرفها وبين فترة وأخرى كانت يداه تتبادلان الإمساك بطرف الكرتون، فالسير في هذا الطريق المترب وفي هذا الجو الحار يضاعف من تعبه وإرهاقه.. فبدأ يحس بالعرق ينساب على صدره ويبلل فانيلته .. وأستمر صاحبنا يسير وهو يمني النفس بقراءة دسمة في أيامه القادمة.. خصوصا وان هناك بعض الأعداد من مجلات الأطفال المصرية والعراقية: صندوق الدنيا ومجلة الطلبة وسندباد مجلته العظيمة التي كان لها فضل كبير عليه فيما بعد وعلى اهتمامه بالرسم الساخر..!! ها قد اقترب من أسوار مدينته .. هاهي عين مرجان وطريقها الذي يعرفه الجميع .. بل انه يعرفه تماما؛ فبالقرب منها تقع مزرعة عمه المشهورة بفواكهها : الرمان والخوخ والتين والليمون وتمورنخيلها الممتازة الخلاص والشيشي والخنيزي والبرحي .. حمد الله أنه سلك هذا الطريق الذي تظلله تقريبا أشجار النخيل.. فالطقس في هذا الوقت كان حارا جدا وأصبحت أشعة الشمس لا تطاق .. وكان يقول لنفسه (توبه)، كررها مرة أخرى، فهي الأولى والأخيرة أن اقطع هذه المسافة بين المدينتين سيرا على الأقدام وفي هذا الوقت من الصيف، رغم أن الوقت كان يقارب الحادية عشرة صباحا والمسافة لا تتجاوز عدة كيلو مترات ..
كثيرون من الفلاحين قد بدأوا العودة إلى المدينة محملين بمنتجاتهم البسيطة الصيفية من خضار وفاكهة والتي وضعوها فوق الحمير داخل ( المراحل ) الخوصية والبعض الأخر وكان من المحظوظين وضعها في عربته ( القاري ) الخشبي وهو يقود ها باعتزاز ..!!في طريقهم إلى سوق المدينة ( القلعة ) والتي تقع بجوار سوق القيصرية .. بعضهم كانوا في مزارعهم منذ صلاة الفجر .. في سعيهم الحثيث نحو توفير لقمة العيش وأن يفلتوا بجلودهم وأولادهم وأسرهم من الجوع .. كانوا مجتهدين في هذه الحياة ..طبعت الشمس على وجوههم آثارها الواضحة فبدت كالحة .. متغضنة.. ومع هذا كانوا أ سعد حالا من غيرهم الذين ينتشرون في الأسواق بحثا عن عمل أو لقمة خبز .. أجسادهم الجائعة والتي أكلها ( القمل ) والأمراض الجلدية .. وقع الحياة في عيونهم التي لحست التراخوما بياضها وحولتها إلى عيون تبحث عن عافية والانتظار لساعات طويلة في المستشفى الوحيد الذي كان موجودا في ( قصر صالح إسلام ) بالهفوف حيث الدكتور الأمريكي هارولد ستورم الذي جاء من مستشفى الإرسالية الأمريكية بالبحرين .. هذا المستشفى والذي شهد تردد العديد من الأطباء الأمريكان أمثال الدكتور لويس ديم والدكتور هاريسون والدكتور جيرالد نايكرك والممرضة كورنيليا داليتبرج وكان سكنا أيضا للأطباء الأمريكان …
..أجسادهم وقاماتهم النحيلة تشعرك بتعب الحياة البائسة .. تتذكر عندما تشاهدهم يركضون خلف الناس في الأسواق حاملين على رؤوسهم أكياس الخيش الفارغة وهم يكادون يتوسلون هذا أو ذاك ليشملهم بكرمه ويحملون عنه ما سوف يشتريه من السوق .. كان بعضهم معروفا لدي أهل السوق ..فهذا الحمالي من أسرة ( بسيطة ) وذاك من أسرة فقيرة ..وجميعها أسر متواضعة وشريفة ..لكن بمرور الأيام بدأت وجوه جديدة تصل إلى السوق .. وجوه غير معروفة لأهل المدينة .. بعضهم جاء من أقصى القرى أو المدن الأخرى وعلى ألأخص مع انتشار السيارات والمواصلات بين المدن.. هؤلاء بدرت منهم تصرفات غير معتادة.. ولم تكن سائدة في ذلك الوقت .. فهذا الحمالي كان يغافل المتسوق والذي يحمل عنه مشترياته وعند عطفة إحدى
( السكك ) الداخلية ينطلق بما حمله من مشتريات هاربا كما تنطلق الرصاصة من البندقية .. لذلك ومع تكرار الحمالين الغرباء بات الواحد لا يسلم مشترياته إلا لحمالي يعرفه وسبق أن شاهده بل وتعامل معه..كان الناس في مدينته وفي الغالب يتسمون بالبساطة والآلفة واحترامهم لبعضهم لبعض رغم وجود طائفة شيعية كبيرة في مدينته.. بل أن بعض بيوت السنة في أحياء المدينة كانت تشترك مع بيوت الشيعة في ( جليب ) ماء واحد .. لذلك ربطت هذه الجيرة والمشاركة في البئر عائلات سنية وشيعية بعلاقات وصداقات قوية عبر التاريخ.. وبعدا اتسمت المنطقة بسمة ” التعايش ” ومنذ كانت الإحساء وأجواء الاحترام المتبادل بين السنة والشيعة مستمرة ..
ما حدث له ذاك الصباح كان أمرا غير اعتيادي فلم ينم تلك الليلة من فرط الآلام التي كان يشعر بها في ساقيه.. فلقد قطع مسافة غير بسيطة خصوصا وهو لم يتعود على السير مسافات طويلة جدا..حتى الرياضة في المدرسة لا تتجاوز كرة السلة والطائرة وقليلا جدا ما يشارك في لعب كرة القدم لأنها تكون في مواقع بعيدة عن المدرسة .. ومع هذا كان يحب السير بين أشجار النخيل أو في طرق الحقول في مزرعة خاله أو عمه لكنها مسافات محدودة …التعب والحمل الثقيل على رأسه والعرق يشكلون منظومة من الأثر المؤلم في جسده وقامته النحيلة .. لو باستطاعته الجلوس والاسترخاء على الحشائش الممتدة على مجرى مياه عين مرجان .. لو باستطاعته الدخول بستان عمه والتمدد داخل بركة الماء الباردة ليأخذ نفسا طويلا يزوده بطاقة مضاعفة تساعده على إكمال طريقه .. كما يفعل رجال الغوص عندما يأخذون نفسا طويلا قبل الغطس في الأعماق وهم في طريقهم لالتقاط المحار.. نعم أنه يعرف حارس البستان إنه أبو سعد احد صبية عمه وكثيراً ما شاهده في مجلسه .. سيواصل سيره أفضل لأنه لو توقف أو استراح فسوف يشعر بالكسل وربما استرخى ونام.. فهو متعب ألان والحل الوحيد أن يواصل سيره فلم يبق إلا القليل.. هذه هي المقبرة الجنوبية حيث ينام إلى الأبد أبناء مدينته الذين اختارهم الله إلى جواره . وسوف يكون يوما إلى جوارهم هكذا هي الحياة ولابد مما ليس منه بد ؟!.وعلى بعد مئات الأمتار تبدو البوابة الجنوبية لمدينته..عشرات من أبناء المدينة يخرجون من البوابة بعضهم يركب السيارات والبعض على عربات القاري وهناك من يركب الحمير وقليل من هو مثله يسير على قدميه ..أخيرا وصل إلى داخل مدينته .. شعر براحة كبيرة وهو يعبر أول ( سكة ) تؤدي إلى بيتهم .. لو باستطاعته أن يقفز أو يطير.. ياألله ما أروع الوصول إلى ألبيت .. حنان والدته ابتسامة شقيقته .. وكأس معدني به ماء مثلج بحاجة إليه هذه اللحظة.. ماء بارد في هذا الوقت وبعد هذا المشوار نعمة كبرى لا يتصور روعتها إلا من هو بحاجة ماسة إليها، كما حاله الآن .. عندما وضع كنزه من فوق رأسه شعر بأن شيئا مازال ممسكا برأٍسه.. هاجس غريب يثير قلقه .. فربما مازال رأسه يتصور أن الحمل الثقيل الذي حمله طوال هذه المسافة الطويلة هي وراء هذا الهاجس الغريب .. وقف أمام المرآة المزدانة برسوم طيور الطاووس الملونة .. وجهه شاحب والشمس تركت لونا خفيفا عليه .. ومع هذا كان سعيدا بكنزه المعرفي وما هي إلا ساعات ويعود لوجهه لونه الطبيعي .. إنه بحاجة الآن لآخذ حمام يغسل فيه تعبه وبعدها يرتاح .. عليه الآن تأدية صلاة الظهر في المسجد وبعدها يعود ليطالع كنزه الجديد ..في المسجد التقى أبن عمه.. سأله عن تغير لونه أخبره بما حدث.. عاتبه لماذا لم يركب سيارة أجرة ويحاسبه عند وصوله للبيت فتصرفه كان أخرقا ً.. بتلقائية قال له: أحببت استكشاف طريق عين مرجان ..لم يسبق أن قطعته سيرا على الأقدام .. وأضاف: صدقني رغم التعب والجهد الذي بذلته حاملا كنزي الثمين إلا أنني شاهدت مناظر طبيعية رائعة .. هل شاهدت البلابل المغردة وهي تشرب الماء من جداول المياه .. لا تتصور جمال أشعة الشمس وهي تتخلل سعف النخيل في لوحات متحركة وعلى إيقاع موسيقى زقزقة عصافير الأشجار .. أنت تعلم أن جمال الطبيعة في الإحساء .. جمال ساحر .. لقد أثار إعجاب وتقدير العديد من الرحالة والمستكشفين الأجانب أمثال ريتشاربرتون .. أو كارستن نايبور أو بوركهارت فلبي .. وشكسبير .. وفيدال .. وباركلي رونكيير الرحالة الدنماركي الشاب الذي وصل إلى مدينته على ظهر جمل قبل تسعة عقود تقربا وكتب يقول : (أمضيت وقتي أتنقل في أرجاء الإحساء وأتمتع بمناظرها البهيجة وخضرتها الغناء التي يعجز الوصف أن يلم بها خاصة ونحن الآن في فصل الربيع ..) نعم إنه كان عاجزا عن الوصف .. وماذا أقول .. هل أنا عاجز أيضا..؟ لكنني استمتعت بمشاهدة المناظر وأنا أسير على قدميّ..!! / يتبع غدا
المشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء مستعارة لاتمثل الرأي الرسمي لصحيفتنا ( المواطن اليوم ) بل تمثل وجهة نظر كاتبها
اترك تعليقاً