د/ قيس المبارك

يرتبط الطبيب مع المريض بمجموعة من الالتزامات التي يفرضها عليه العقد المبرم بينهما، ومنها التزام الطبيب بتبصير المريض بمخاطر العلاج، فهل إخفاء مخاطر العلاج عن المريض وعدم تبصيره بها يحقِّق هذا المقصد؟ هذا موضع اختلف فيه القانونيون المعاصرون، فأغلبهم رأى وجوب تبصير المريض بجميع المخاطر المتوقعة، وذهب آخرون إلى أن الطبيب أدرى بطبيعة المرض وخطورته، فهو الذي يعرف قدر المخاطر المترتبة على إجراء العملية الجراحية، وقدر المخاطر المترتبة على عدم إجرائها، فمن أجل ذلك رأوا أن تترك للطبيب حرية الاختيار، فله أن يجري العملية وله أن يؤجل موعد إجرائها، وله أن يقرِّر عدم إجرائها، ولا يجب عليه ذِكر شيء من المخاطر المتوقعة من إجراء الجراحة، فرأَوا أن وظيفة الطبيب أن يشخِّص الحالة ليقرِّر احتياج المريض للعمل الطبي من جراحة أو غيرها، وليس من عمله إقناع المريض بإجراء الجراحة،

اذا تم تبصيره بمخاطر العملية الجراحية، فقد يزيده ذلك ضيقاً ينعكس على حالته الصحية فتزداد تدهوراً، وربما اتخذ قراراً ليس من مصلحته، والذي تدلُّ عليه نصوص الفقهاء أن تبصير المريض بمخاطر المرض أمر يفرضه العقد المبرم بين الطبيب والمريض، بمعنى أنه التزام حصل حين إبرام العقد، وليس سابقاً في وجوده للعقد الطبيفكانت المصلحةُ ألا نُكلِّف الطبيب بشرح جميع المشاكل التي يمكن أن تقع بسبب عملية التخدير السابقة للجراحة، ولا بشرح ما يمكن أن تُفْضي إليه عملية الجراحة نفسها من المشاكل، لأن كل ذلك خارج عن نطاق عمله، فضلا عن أنه يضيع وقته الذي يجب أن يصرفه فيما هو أهم، ورأوا كذلك أن مراعاة نفسية المريض تقتضي ألا يسمع شيئاً عن المخاطر، لأن الآلام النّازلة بالمريض، تورثه الاضطراب والقلق والخوف، فإذا تم تبصيره بمخاطر العملية الجراحية، فقد يزيده ذلك ضيقاً ينعكس على حالته الصحية فتزداد تدهوراً، وربما اتخذ قراراً ليس من مصلحته، والذي تدلُّ عليه نصوص الفقهاء أن تبصير المريض بمخاطر المرض أمر يفرضه العقد المبرم بين الطبيب والمريض، بمعنى أنه التزام حصل حين إبرام العقد، وليس سابقاً في وجوده للعقد الطبي، فهو أمرٌ يقتضيه اشتراط عدم الجهالة في عقد العمل الطبي، ذلك أن من شروط صحة العقد، أن تنتفى الجهالة عن الشيء المنتفع به، فإنَّ تحقُّق جهالة المريض بالمخاطر المترتبة على العلاج، يقدح في صحة الرضا بالإذن الطبي، فقد جعل الله سبحانه من شروط صحة العقد، أن تكون المنفعة معلومة علماً تمتنع معه المنازعة، ويرتفع به الخلاف، حيث قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)، ومن المسلَّمات أن الرضا لا ينصرف إلا إلى شيء معلوم القدر والصِّفة، وبيان ذلك أن المريض إنما أذِن بالعملية الجراحية، في حال جهله بالمخاطر المترتبة عليها، والعاهة المستديمة التي قد تلحقه بسببها، أما لو علم بهذه المخاطر فإنه قد يمتنع عن الإذن للطبيب بالجراحة، لأنه لا يرضى بالدخول في عملٍ مِن شأنه أن يُلحق الضرر بجسمه، وهكذا فإن إذنه للطبيب بالجراحة، لا يتضمن إلا الرضا بالجراحة في الحالات المعتادة وغير المخطرة، أما الحالات التي فيها مخاطرة، فليس في إذنه ما يتضمن الرضا بها، فلم ينعقد له رضا فيها مطلقاً، فالإذن مع وجود هذه الجهالة فيه غبْنٌ بيِّن، لأن الإذن إنما اعْتُبِرَ شرعاً للأمن من الضرر، فإذا جرى العقد مع الغبن عُلِم أن الإذن لم يقع في محله، فعدم تبصير المريض بمخاطر المرض والعلاج، يعدُّ جهالة يقف بسببها انعقاد الإذن بالعمل الطبي، فالشرط الذي من أجله أذِن المريض للطبيب بإجراء العمل الطبي على جسده، هو أن يقصد الطبيبُ معالجة المريض وتحقيق الشفاء له، فإخفاء المخاطر إخلال بالعقد، فأحقِّية المريض في التصرف في أجزاء جسمه راجعةٌ إلى نفسه دون غيره، قال الإمام القرافي رحمه الله: (إنَّ الله تعالى تفضَّل على عباده، فجعل ما هو حقٌ لهم بتسويغه وتَـمَلُّكِه وتفضُّله، لا يُنقل الـمِلك فيه إلا برضاهم، ولا يصح الإبراء منه إلا بإسقاطهم) فيجب أن يبقى الإذن راجعاً إليه وحده لأنه أدرى بما ينفعه وما يضره، وهو أدرى كذلك بقدْر أَلَمِهِ، وأرفق بنفسه من الطبيب، بخلاف تبصير المريض بجميع المخاطر المتوقعة منها وغير المتوقعة، فإنه أمرٌ يتعذر الوصول إليه ويصعب تطبيقه . / عن اليوم