تم النشر في الأحد, 30 يونيو 2019 , 09:15 صباحًا .. في الأقسام : أهم الأخبار , مقالات

الحلقة التاسعة عشرة من رواية ( عين الحريم ) للاستاذ أحمد المغلوث

من لوحات المؤلف عن العقير

الحلقة التاسعة عشرة/

 

 صور ومشاهد

…  إنني متعب جدا منذ ثلاثة أيام لم  أنم  نوما متصلا  وعميقا .. سهر أصحابه رفقاء الرحلة كانوا سهارى  وسهرهم   مملا وثقيلا عليه ..!! .. ورق .. كيرم .. ودمينو .. كيف استطاع تحمل السهر خلال الأيام الماضية .. لولا تلك الاشراقة من أمال التي شغلته وأبعدته حتى عن نفسه ..الآن يستطيع أن ينام ملء جفونه ويعوض ما فاتته من ساعات النوم  التي يحتاجها جسمه النحيل الآن ..!! أمر سيء أن تذهب في رحلة غير منظمة ومع أشخاص رغم محبتك لهم لا يضعون اعتبارا لأهمية الراحة والنوم .. سهر ولعب بدون وعي ..!!   استيقظ من النوم مبكرا.. مازالت آمال تسيطر على ذاكرته.. وتشغل مساحة واسعة فيه كل ما تتسع إليه تصوراته وخيالاته اللانهائية.. سيرها على رمال البحر المبللة .. استفسارها عن الحمام .. إعجابها بالمجلة  .. شعرها الغجري.. حديثها معه .. احتساؤها الشاي.. مصافحتها الوداعية .. حديث العيون الصامت.. صور ومشاهد تترى  في ذاكرته .. مضى اليوم الأول على اللقاء الأخير وهو لم يسلوها لحظة واحدة .. لكنه هذه الليلة حلم بها جاءت له بصورة مختلفة في غلالة وردية.. أكثر حضورا .. وأكثر فتنة ..   مرة قرأ أن الإشباع الجنسي قد يتحقق بدون وجود الشخص الآخر .. وما أسهل الطرق أيضا.. وهو يتحقق في الحلم وفي اللاوعي .. لقد شعر بذلك عندما سارع في إخفاء ملابسه الداخلية عن والدته وقام بغسلها وتنظيفها بنفسه ..؟!! يتشارك الجميع في ذلك الكبير والصغير وحتى البعض من المتزوجين الذين يعانون من وجود مسافة بينهم وبين زوجاتهم فيستسلمون للأحلام التي تعوضهم بعض مما فقدوه.. !! والمثير ان مقل هذه الاحلام ليست مقصورة على الرجال فحسب وإنما حتى النساء ..

 

      شمس وظلال

     شقيقه الصغير يبكي .. والدته تسارع إليه حيث كان  ممددا في سريره المصنوع من سعف النخيل ( المنز ) راحت تهدهده تارة وتناغيه تارة أخرى وهي تهز سريره .. ثم وضعت في فمه ( المصاصة ) .. نهض من فراشه ..وهو ينظر لوالدته وشقيقه ..انتعل حذائه وأتجه إلى الحمام .. بعد لحظات خرج وهو يجفف شعر رأسه   (بفوطة )  قطنية .. وقف خارج الغرفة .. داخل رواق بيتهم الصغير .. وراح يتطلع لظلال الشمس وهي منعكسة على أرضية الساحة المكشوفة في وسط البيت ( الحوي ) كانت بعض خطوط  الظل التي تخللت سور السطح  المزخرف  ..ترسم شكلا جميلا على الأرض  .. لو كان لديه كاميرا تصوير لقام على الفور بتسجيل هذا الرسم التلقائي الرائع ..والذي يعتبر فنا من فنون التصوير الرائعة ..!!خلفه وقفت والدته تحمل كوب الحليب الطازج في انتظاره   والذي للتو حصلت عليه من إحدى عنزاتهم الثلاث بعدما امت بغليه وتحليتة بقطع سكر ( الغند ) وشيئا من الزعفران ..ففي بيتهم حوش صغيا توجد فيه بقرة وماعز وخراف إضافة إلى مجموعة طيبة من الدجاج والديوك .!!خصص لهم مكانا في الحوش بعيدا عن أقدام بقرتهم.. قبل سنوات تقول والدته أنها فقدت أكثر من دجاجة وديك نتيجة لقفزهم سورهم الطيني الصغير وما هي إلا فترة من الوقت وكانت النتيجة الموت دهسا تحت أقدام  هذه البقرة  الشريرة كما وصفتها والدته وهي تحكى له قصة مأساة دجاجاتها البياضات .. ومع أنها تنعتها بالشريرة إلا أنها تحرص عليها كثيرا فأم فرج تأتي كل يوم لتقوم بخدمة ما يشتمل عليه الحوش من بهائم ودجاج .. فالبيت في الماضي يعتمد على نفسه في توفير الحليب واللبن والبيض .. وليس هذا فحسب فوالده كلف احد الصبيان والذين يعملون في سوق ( ألجت ) البرسيم بإحضار خمسة ربطات  ” عقب ” مساء كل يوم .. يضعهم أمام باب البيت في الدهليز بعد أن يقرع حلقة الباب النحاسية أكثر من مرة وتقوم بعدها أم فرج بحمل البرسيم من جوار الباب إلى حوش البهائم ..هكذا كانت حالة  البيوت فيما مضى من زمن .. !!

 

  أصوات وتأوهات

     وكان ثمة مشاركة أخرى تتشارك فيها بيوت مدينته وهو عادة النوم في أسطح المنازل في ليالي الصيف  .. حيث كانت تسمع  أصوات الجيران خاصة ذات النبرات العالية وكم هي كثيرة .. نعم تصل لأسماعهم أصوات الآخرين .. وتكاد تسمع حتى مضغ البعض لطعامهم ..وعندما اننقلوا الى بيت اخر وكان مبنيا من الطابوق والاسمنت كان النوم ايضا في الصيف مكانه المفضل السطوح . و  في إحدى الليالي سمع وشقيقه الأكبر…. تأوهات وأهات وصراخ مكبوت من زوجة صغيرة لم يرحم زوجها طفولتها .. وما أكثر الزوجات الأطفال في مدينته  في زمن   صباه ومراهقته .. كانت بعض الأسر في مدينته لا تتردد في القبول بزواج طفلتهم الصغيرة من رجل كبير حتى ولو كانت لديه أكثر من زوجه .. المهم أنه يستر عليها ويوفر لها لقمة عيش أفضل .. حتى والدته تزوجت صغيرة كانت في السادسة  عشرة كما قالت له عندما سألها ذات مره .. بل أضافت في استحياء أنها تعتبر كبيرة نوعا ما  عند زواجها من والده .. بالمقارنة بالفتيات اللواتي يتزوجن في الثانية عشرة والرابعة عشره  وهناك من تتزوج في سن اصغر خاصة في القرى ..!!  ظروف الحياة  الصعبة ورغبة أولياء الأمور في الاطمئنان على بناتهم يجعلهم مرغمين على الموافقة والقبول بمن يتقدم لبناتهم خاصة اذا كان مناسبا لها ولم يكن  مهما في الماضي كما قالت له والدته أن يكون الزوج كبيرا بقدر ما يكون مناسبا عائليا وماليا بل هناك من يفضل زواج ابنته الصغيرة من رجل لديه أكثر من زوجة لكنه يقيم في نفس المدينة مما يعني عدم ابتعاد أبنتهم عنهم أو غربتها .. وكانت  هذه الظاهرة تتكاثر في العديد من المدن بل وحتى مدن الدول الخليجية المجاورة .. !!

 

   الأزقة الضيقة

    جميلة وبسيطة هذه البيوت الطينية في مدينته لقد شاهدها من منارة  الجامع الكبير بالمدينة لقد ترجى المؤذن أكثر من مرة حتى يسمح له الصعود إلى أعلى المنارة ليشاهد فيها مدينته الحبيبة من فوق .. منظر المدينة من أعلى يتيح لك فرصة مشاهده أكبر وعلى امتداد الأفق .. البيوت متناثرة في غير ترتيب .. الأزقة الضيقة تبدو من فوق  عبارة عن خطوط ملتوية اللون الأخضر مفقود داخل البيوت .. اللهم بعض أشجار السدر و النخيل متناثرة هنا أو هناك ..  البيوت في مستوى واحد في الغالب تتكون البيوت في مدينته من دور واحد وفي السطح غرفة او غرفتان .. قليلة البيوت التي تتكون من دورين كاملين ..  في العادة البيوت التي من هذا النوع ..هي بيوت الأغنياء أو الأثرياء أو كبار أعيان المدينة .. وحده الآن سيد المدينة أنه يمتلكها الآن .. يحتويها في عينيه ..  كأنه يلتقط لها صورة بانورامية  كبيرة .. من بعيد يشاهد بواباتها الكثيرة .. وحزام من غابات النخيل  والأشجار  يلتف  حولها في حب ..!! أنه سيد المدينة الآن أنه الوحيد الذي يراها من فوق .. أنه يشاهد  أكثر من امرأة تقوم بنشر غسيلها في سطوح منازلهم ..  ويشاهد أيضا حركة الناس في السوق .. العربات  التقليدية وحميرها البيضاء .. قليل من السيارات .. والكثير الكثير من الناس وبعض النسوة وهن يحملن مشترياتهن في قفف فوق رؤوسهن .. ؟!  ومن المشاهد التي شاهدها ومازالت مرسومة في ذاكرته هو مشهد السقاء الذي كان يجلب الماء في الجرار( المصاخن ) على حمارته ويوزعها على البيوت ويتسلم قيمتها كل شهر من صاحب البيت ..!!

 العملية الإبداعية

     كانت اللحظات تمر عليه  سريعة  وهو سعيدا في  متابعته  للمشاهد المتاحة من منارة الجامع .. راح يرسم بعض ( الاسكتشات ) البسيطة في دفتر الرسم الذي  كان ورقة المرور للصعود للمنارة .. ومازالت بعض رسوماته المستوحاة من هذه المشاهد موجودة لديه في أرشيفه .. بعضها تحولت إلى لوحات ملونة .. وعرضت في معارض داخل بلاده وخارجها … الرسم جميل وعملية إبداعية كبيرة .. والأجمل فيه أنه أستطاع  أن يوثق مشاهد من الماضي لم يكن متاح توثيقها في ذلك الوقت .. هكذا فعل المبدعون المستشرقون عندما زاروا أنحاء مختلفة من العالم العربي .. رسموا القاهرة بكل ما فيها من جمال وحياة ..وهكذا فعلوا في الجزائر وتونس والمغرب والشام والأردن وفلسطين .. والقليل منهم من أتيح له رسم الجزيرة العربية وذلك بسبب عدم إتاحة الفرصة أمامهم لزيارة الأراضي المقدسة لكونهم غير مسلمين ..  !!

     عندما نزل من المنارة حاملا دفتره.. صادف أن شاهد الأستاذ عبد الله بقامته الطويلة ووجهه الأبيض كان مراقبا للمدرسة الأولى بمدينته.. على ما يبدو جاء في زيارة لأحد معارفه  هنا  فهو من سكان مدينة الهفوف  فهذه الأيام تعتبر أيام عطلة مدرسيه .. وهو لا ينسى أبدا شكل الأستاذ عبد الله ولا حيويته ونشاطه وجولاته المكوكية  على الفصول وساحات المدرسة بل كان يشرف كل صباح على توزيع حصص الخبز الأحمر وأكواب الحليب على طلاب المدرسة .. وعصاه الخيزران الرفيعة التي كان يحملها في يده ويخفيها أحيانا وراء ظهره .. الأهم انه لا يمكن أن ينساه رحمه الله لما أمتاز به طوال حياته من تواضع وتقدير للآخرين وعدم تفرقة في تعامله مع أبناء الأثرياء أو البسطاء من عامة الناس  فجميع الطلبة عنده سواسية .. مره شاهده يضرب طالبا وكان والده من الأعيان المشهورين في المدينة لان هذا الطالب كان مشاغبا جدا ورمى احد المدرسين بحصاة صغيرة كادت أن تصيبه في وجهه لولا أنها أخطأته وأصابت ( السبورة ) السوداء .. وكان مصير هذا الطالب أن يمده على الأرض وتربط رجليه بعصا ( الفلقة ) ليضربه بعصاه ضربات موجعة جعلت دموعه تسبق صراخه..وكان الأستاذ عبد الله يهابه جميع الطلبة حتى المدرسين أنفسهم.. وضربة واحدة من عصاه الخيزران على إطار باب الفصل تثير الخوف والوجل.. فيسود الصمت المكان  وقبل ذلك الألسن ..  مشاهدة الأستاذ عبد الله أعادته سريعا إلى المدرسة الأولى والدراسة تحت ظلال شجرة السدرة الكبيرة .. حيث كانت المدرسة في ذلك الوقت تعاني من عدم وجود فصول كافية لكل الطلا ب الذين تضاعف أعدادهم عشرات المرات فالإقبال على التعليم كان كبير جدا .. والحل كان قبول الطلاب وجلوسهم على الأرض خاصة لتلاميذ الفصول الأولى.. وكان نصيب صاحبنا أن يجلس على الأرض مع  العشرات من التلاميذ  غيره  .. والمثير أن عصا الأستاذ الذي كان يدرسهم .. كانت عصا طويلة جدا باستطاعتها الوصول لكل التلاميذ الذين يجلسون أمامه على شكل نصف دائرة متكررة.. وكان منظر العصا في يده يثير في نفوس التلاميذ الصغار الرعب .. ويتضاعف هذا الرعب مئات المرات عندما يردد تسميع.. سمع يا ولد أنت اللي لابس الطاقية.. وعندما لا يحفظ التلميذ صاحب الحظ السيئ.. يبدأ الصراخ والصياح فيستسلم هذا التلميذ فاتحا يديه لتستقبل ( إرهاب العصا) بدون رحمة او تقدير لظروف هذا التلميذ الصغير .. فكيف له أن يحفظ خلال يوم أو يومين أكثر من سورة من سور القرآن الكريم.. !! ويذكر جيدا ماذا كان يجري  تحت هذه الشجرة الكبيرة .. ففي الفسحة تتحول الشجرة إلى لعبة المرجيحة حيث يعلق احد الفراشين حبالا قوية على احد فروعها وتوضع مكان الجلوس وعلى الحبل الضخم ( خيشة )  ليجلس عليها التلميذ الذي له الدور في الاستمتاع بالأرجوحة .. وحولها يتحلق التلاميذ ليمارسوا بعض ألعابهم الشعبية المفضلة .. كطاق طاقية أو لعبة  اللقصه أو ألحبليه .. وهكذا كانت شجرة السدرة في المدرسة الأولى لها ذكرياتها اللطيفة والظريفة التي لا يمكن أن ينساها أبدا ..!! ويكفي أن حول هذه الشجرة تكونت بداياته الأولى في التعليم والمعرفة ..  كتابته لأول مرة  الحروف مع تهجئتها وحفظها  ( الألفية ) .. وحفظ سور القرآن الكريم ..جزء عم وجزء تبارك .. وعصا الأستاذ وهي تلامس يديه الصغيرتين النحيلتين .. عندما لا يحفظ أو يكون تسميعه ( نص ونص ) .. وقع العصا على يديه كان يحدث نوعا من الأصوات الخفيفة الممزوجة بصراخه وآهاته الحزينة المؤلمة.. ودموعه التي كانت لحظتها تنساب من عينيه .. ألما وخوفا ورهبة من ( إرهاب العصا) وإرهاب نظرات الأستاذ وهو يشير إليه في سخرية .. أنت يا جاهل ..!! يا ويلك بكره إذا ما سمعت وحفظت كما يجب ..؟! / يتبع غدا 

المشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء مستعارة لاتمثل الرأي الرسمي لصحيفتنا ( المواطن اليوم ) بل تمثل وجهة نظر كاتبها

اترك تعليق على الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Comment moderation is enabled. Your comment may take some time to appear.

مهرجانات

سمو محافظ الأحساء يطلع على مبادرة التعليم “نعاهدكم ببناء جيل منافس عالمياً”

المواطن اليوم اطلع صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن طلال بن بدر محافظ الأحساء ، في مقر المحافظة اليوم ” […]

  • فبراير 2025
    س د ن ث أرب خ ج
    1234567
    891011121314
    15161718192021
    22232425262728
  • Flag Counter
  • Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com