تم النشر في الأربعاء, 11 سبتمبر 2013 , 12:17 مساءً .. في الأقسام : أهم الأخبار , ثقافة وفنون
مارك كينغويل وأوليفيه بوستيل – فيناي *
يتقاطر «حجاج» الفن كل سبت على صالات العرض المتناثرة في حي شيلسي النيويوركي. شطر كبير منهم ثري ومرموق، لكنهم يشكّلون حشداً بائساً وحزيناً، فكلٌّ منهم يبحث عن شيء لا يعرف ماهيته. وهم يسيرون على خطى حددتها مجلة «آرت فوروم» وصفحة «آرت أند ليجر» في صحيفة «نيويورك تايمز». وفي بعض الأحيان، يستخفهم الإعجاب بما تقع عليه أعينهم، وفي أحيان أخرى، تختلج مشاعرهم أمام عمل ما. وقد يشترون لوحة أو منحوتة. لكن رغبة متناقضة لا تبارحهم تختزل في سؤال: «أليس هناك شيء آخر لرؤيته؟». وهم لا يريدون أن يقعوا في ما وقع فيه الأسلاف حين أداروا الظهر لأعمال مانيه وفان غوغ، ولفظوها. لذا، يُقبلون على الفن المعاصر ويرحبون بكل عمل تجديدي، ولو لم يوافق ذائقتهم.
وكل عامين، يقصد متذوقو الفن و «حجاجه» صالات متحف ويتني ومعرض البندقية حيث لا تباع الأعمال الفنية بل تعرض عرضاً يتقصى رؤيتها الشاملة، ويسعى إلى الإحاطة بها. لكنهم لا يجدون غايتهم، ولا يقتنعون بالرؤية هذه. فهم ينظرون بعين الريبة إلى السرديات الخطابية الطويلة وزعمها رؤية جامعة وعامة. والرغبة حين تتبدد تخلف وراءها شعوراً مريراً بعدم الرضا. وقد لا يقر كثر منهم بأن المعنى المستودع في هذه الأعمال ليس في متناولهم. وعدد الأعمال المعروضة كبير، و «فرزها» أو ترتيبها متعذر. وقد يجد «الحجاج» هؤلاء عزاءً لهم في بحثهم المضني عن الفن إذا وقعوا على تعريف ثابت له. وعلى رغم سهام النقد الكثيرة الموجهة إلى عالم الفن و«سطحية» العاملين في بيعه، تظهر عليه علامات الازدهار. ولم يسبق أن أُنتج وعُرض هذا الكم الكبير من الأعمال الفنية. ومدارس الفن تزدحم بالطلاب وتخرج سنوياً أعداداً كبيرة من «الفنانين» الذين يحتلون المقاهي البارزة في المدن. وفي الماضي، اعتُبر الفن حكراً على النخب، فسعى رافعو لواء الديموقراطية الثقافية إلى إنزاله من عليائه وجعله في متناول الجميع. فدعوا إلى إنشاء المتاحف العامة، واليوم سوق الفن مشرّع الأبواب أمام من يملك حفنة من مئات الدولارات أو آلافاً منها.
والحق أن مشاعر نبذ الفن المعاصر تفوق تلك التي أثارتها اعمال الانطــــباعيين الأوائل. ويرى كثر أن معايير الجمال انتهكت، وأن الفن يعيش مرحــــلة ابتـــذال. لكن الموقف السلبي إزاء الفن المعاصر هو مرآة أزمة. فعلى رغـــــم وسمه بالمعاصر، يعود ظهور الفن هذا إلى الستينات مع أعمال أندي ورهول. ونصف قرن مرّ على بروزه، لكن موجة الرفض لم تتبدد. وفي هذا الفـــن، ترجــــح كفـــة المعنى المسبغ على العمل على كفة الشكل الفني. فيترافق ضعف العمل الفني وضآلة ابتكاره مع تعاظم الخطابة النظرية. ومكعبات توني سميث- وهو من أعلام الباحثين في الفن في فرنسا، هي خير مثل.
ولا يخفى التضخم الخطابي إزاء أعمال فنية هزيلة. وصنع جورج ديدي- هوبرمان مكعباً أسود أرفقه بالكلام التالي: «لا يبعث قلقنا (المكعب) ظلام الجرم هذا فحسب. هو يقلقنا جراء الحيرة السارية بين البعد العمودي والبعد الأفقي». وثراء أعمال فنانين مثل جياكوميتي وبرانكوزي وباكون يغني عن خطابة مماثلة. فتعود هذه إلى «رشدها». ووراء الإجماع على أن أعمال ورهول افتتحت الفن المعاصر، تقليصه الابتكار الشكلي إلى حده الأدنى وتحويله إلى شعار أو ماركة. فأعماله هي ثمرة اللقاء بين مجتمع الاستهلاك ومجتمع الاتصالات.
وعلى خلاف الفن المعاصر، لم يحد الفن الانطباعي، على رغم تنوعه واختلاف ألوانه، عن غايات الفن الأساسية والقديمة، أي ولادة معنى وإبراز جانب من الجمال من طريق التصوير والتمثيل على الشيء. لكن الفن المعاصر يتغنى بإطاحة هذه الغايات والمبادئ، والبحث عن الجمالية وتمثيل الواقع ليس من أولوياته. وهو يزعم أنه يسبغ معنى على الواقع عبر تمثيله وتصويره. لكن المعنى هذا ضحل ومتهافت. والأعمال المعروضة في صالات الفن بسيطة ولا يخفى معناها على من يقع نظره عليها، ولا تقتضي إعمال التفكير لإدراك معناها الظاهر وغير المضمر.
ويعود عنف رفض الفن المعاصر إلى شعور الناس بأنهم يواجهون خديعة تستند إلى وهم تنفخ فيه المؤسسات الفنية والأسواق. والوهم هذا يحمل صور ابتذال ثقافي هي علامة على عصرنا. وأزمة الفن اليوم مردها إلى العجز عن إيجاد جواب لسؤال قديم: «ما هو الفن».
عن الحياه
* ناقد فني وصحافي، عن «بوكس» الفرنسية، 9/2013، إعداد منال نحاس
المشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء مستعارة لاتمثل الرأي الرسمي لصحيفتنا ( المواطن اليوم ) بل تمثل وجهة نظر كاتبها
اترك تعليقاً