تم النشر في السبت, 11 مايو 2019 , 09:18 مساءً .. في الأقسام : أهم الأخبار , مقالات
حينما اقتربت السيارة من مشارف الإحساء وبالقرب من منطقة العضيلية بالمبرز .. بدأت أضواء احتراق الغاز تلوح في الأفق ناشرة نور باهت
مصحوبا بهباب الدخان الذي كان يتلاشى في سماء المنطقة المحيطة بالطريق .. وعلى أنغام الموسيقى المنبعثة من مسجل السيارة .. شعر بيده الصغيرة تربت على كتفه من الخلف .. التفت أليه فإذا به يقول له جدي :
ممكن اعرف قصة اكتشاف البترول في المملكة .. شعر بسعادة كبرى لسؤال حفيده الصغير .. بل شعر بأنه بهذا السؤال أعاده ألى الماضي عندما كان في مثل عمره تقريبا عندما راح يسأل والده رحمه الله عما كان يسمعه من أحاديث مختلفة في مجلس عمه العامر بالعديد من رجال
المدينة ؛ نعم انه يتذكر الآن كيف كان حال المجلس في تلك اللحظات .. وهم يستمعون عبر إذاعة لندن حديثا عن( النفط ) وأهميته وكيف بان النفط يشكل العصب المحرك للطاقة في مختلف دول العالم .. بل أن من أسباب اهتمام الدول الكبرى باستعمار الدول الأخرى في الشرق والغرب في الشمال والجنوب هو هذا السائل الأسود الثمين والذي أطلق عليه البعض الذهب الأسود ..؟!!انه يذكر جيدا بعض ما جاء في هذا الحديث العجيب والمثير بالنسبة لعقليته الطفولية ولولا إن والده راح يشرح له بعض الجوانب التي لم يفهمها من كلمات وعبارات لما استطاع أن يستوعب ما كان يدور حوله من أحاديث وتعليقات بعد حديث الإذاعة المثير والعجيب. نعم أنه عرف لحظتها بأن النفط هو دم الحضارة وبدونه تتوقف الحياة في مختلف دول العالم ووجوده والبحث عنه مهم جدا . . ومن يملك النفط يملك المال .. فلاعجب بعد هذا أن تسعى الدول ألى بذل كل جهودها وتسخر كل إمكاناتها من اجل سواد عيون هذا السائل الأسود ..؟؟انشرحت أساريره وظهرت السعادة جلية في عيني حفيده الصغير هذا التساؤل الطفولي يثير في نفسه شجون وذكريات الماضي وقال وهو مازال ممسكا بيد حفيده الصغير حكاية النفط يا ولدي حكاية طويلة ..؟!
فقال حفيده كيف يعني طويلة ..؟
وأدرك أن حفيده لم يستوعب المعنى بصورة واضحة .. فقال يا ولدي ..يعني تحتاج وقت طويل من أجل اشرح لك كل جوانبها .. ووجودنا في السيارة لايتيح الفرصة للحديث عنها بصورة دقيقة وعلى الأخص كون ديرتنا هي ارض النفط .. وعلى العموم كلها نصف ساعة ونصل الى بيتنا وهناك وبعد العشاء احكي لك قصة النفط .. فقال حفيده بس أخاف يا أبوي بعد العشاء تقول .انا تعبان وأبقى ارتاح او تنشغل في متابعة قراء تك لكتبك .. في حين انا مشتاق جدا لمعرفة حكاية النفط في د يرتنا .؟!! لا يا ولدي أطمئن مادمت حريص على معرفة حكاية نفط ديرتك كما تقول ؟! فاطمئن سوف احكيها لك .. بس اترك لي فرصه .. وأضاف سعيدا ثق يا حبيبي أنني سأظل احكي لك حكاية النفط في بلدنا حتى تمل .. ؟؟ واصلت السيارة سيرها في الطريق المتعرج وباتت تتلاشى سحب دخان الغاز المحروق .. هاهي منطقة محاسن بالمبرز وهاهو مركز التدريب التابع لشركة ارامكو السعودية وعلى بعد خطوات مباني العيادات الطبية وبدأت معالم المدينة تظهر من خلال أنوار شوارعها الساطعة ..
تعود الى ذاكرته بعض الصور والمعلومات التي لابد انها تعود الى عقود
والتي يرى فيها مجموعة من رجال المدينة في مجلس عمه وهم يتحلقون حول الراديو ( الفيلبس ) الخشبي وهو ينقل لهم خبر اكتشاف النفط في المملكة .. هم ذاتهم كل ليله عمه الشيخ داود وجاره أبي عبدالله وخال أولاده عبد اللطيف والسيد حسن ملامحهم الباسمة ووجوههم المتجهة تماما للراديو .. كل واحد منهم يريد أن يقترب أكثر من صندوقه الخشبي خصوصا السيد حسن والذي كان يشكو من ضعف في سمعه نتيجة لممارسته الغطس في عين مرجان أيام مراهقته ..
كان لا يزال تحت تأثير صور الذاكرة عندما توقفت السيارة بجوار بيته الكبير .. نزل من السيارة وهو يتكأ على عصاه الأبنوسية وراح الأبناء والأحفاد يتراكضون نحوه فهذا يقبل رأسه وأخر يده .. شعر بسعادة كبرى وهو يراهم حوله ..ومسح بطرف غترته دمعة تدحرجت على خده وراح يحرك نظارته محاولا تثبيتها على أرنبة انفه في محاولة أن لايرى احدهم دموعه .. انه يشعر بسعادة عظيمه فلقد أنعم الله عليه بالذرية الصالحة فهو الآن ولله الحمد يخطو في عقده الثامن ولا يشكو الا من أشياء بسيطة تعب بسيط في ركبتيه ..لا يقاس بما يعانيه غيره من أمراض .. قد يكون لطبيعة عمله بشركة الزيت دورا كبيرا في محافظته على صحته فلقد اكتسب الكثير من هذا العمل .. الدراسة التدريب .. معرفته باللغة الانجليزية تحدثا وكتابه إنه من القلة الذين أتيح لهم الدراسة في أمريكا من خلال برامج التدريب المختلفة .. لقد أتاح له عمله في هذه الشركة الشيء الكثير بل أنها فجرت طاقات دفينة كانت في داخله .. حب القراءة .. السفر .. المراسلة والتعارف .. نعم لقد كان من مشاهير هواة المراسلة وكانت صوره تنشر في ركن التعارف في مجلات تلك الأيام الشهيرة .. وبات صندوق بريده في حي المنيرة بالظهران من أشهر صناديق البريد .. انه يذكر جيدا حد قات العيون التي كانت تراقبه وهو يتصفح المجلات والكتب في مكتبة الشركة .. كان وقت فراغه يقضيه في تصفح كل جديد يصل اليها أسبوعيا او شهريا .. بل انه لا يتردد عن استعارة ما يعجبه من الكتب والمطبوعات التي كان يأخذها معه عند عودته الى مدينته أيام الإجازة .. للشركة فضل عليه كبير كبير .. !! فكيف لا يعرف بعد ذلك حكاية النفط وكل ماله علاقة به .. ؟!
بعد صلاة العشاء في المسجد عاد الى البيت ومازالت صور بدايات النفط في ديرته تعود الى ذاكرته .. إضافة الى تجربته هو نفسه منذ التحق وهو فتى صغير في الشركة كعامل صغير بين المكاتب حتى وصل قبل تقاعده بسنوات لمدير قسم أداري بابقيق جلس مسترخيا على مقعده الوثير بصالة البيت وإذا بابنته الكبرى تقبل عليه مبتسمة وهي تلقي عليه تحية المساء بتلقائية رفعت من على رأسه غترته وعقاله ووضعتهم على المشجب وجلست بالقرب منه .. نظر اليها في حنان وقال لها : مضت ثلاثة ايام ولم تجيبيني يابنتي على طلب بو سعد .. الرجل يبدو انه شاريك وهو يعرف ظروفك وقابل بوجود اولاد وبنات المرحوم معك .. لقد أبدى استعداده لتخصيص بيت خاص بك .. بعيدا عن بيته تحسبا لاي مشاكل او حساسيات قد تقع لاسمح الله في المستقبل بين اولاد ك واولاده .. واذا
أخذ تي برأي فأراه هو الزوج المناسب لك .. الرجل مقتدر وظروفه مناسبة والاهم إنه يناسبنا .. يعني مثل ما يقولون : ( دهنا في هريسنا ) . تطلعت اليه في حب وتقدير وقالت : ما فيه زوج بعد المرحوم بو ناصر .. الحمد لله ترك لنا خير كثير ولا يمكن أتصور أني اطلع من بيتك الا للقبر .. صدقني أبوي لا أبو سعد ولا الف من شكله يعوضني عن أبي ناصر وأضافت وهي تحسن من وضع حجابها الأسود حول رقبتها يكفيني يا أبوي أني عايشه معك وأخدمك .. فتلطع اليها وبدأ له أنه لم يفهم ما تقوله .. واذا به يربت على كتفها وهو يقول : بس يا بنتي أنت مازلت صغيره وحرام تدفنين نفسك وشبابك .. الزواج سنة الحياة . والحمد لله أولادك الآن أصغرهم دخل المدرسه .. وملايين من النساء الأرامل تزوجن من جديد
والخير دائما قادم بمشيئة الله ..؟!
وقدمت له فنجان من القهوة .وارتشف القهوة وتمتم :
هناك ملايين من الفتيات الأرامل في كل مكان اللواتي تزوجن من جديد هل جميعهن ليس لديهن وفاء لأزواجهن .او أنهن لم يحببن أزواجهن ومع هذا تزوجن وأنجبن البنين والبنات .. بل أتصور أن هناك من حظيت بزوج أفضل من زوجها الذي أختاره الله .. أنت يا بنتي متعلمه وربما تعرفين اكثر مما أعرف.. ولا أخفيك أبو سعد أراه مناسب لك جدا وبحكم أنه رجل مقتدر فهو ليس بطامع فيما تركه لك المرحوم ..
قالت : أتعني انه يريدني لشخصي فقط ؟
قال : نعم يا بنتي هذا الذي فهمته وعرفته .كل الجماعة يشيدون به وبتصرفاته .. صحيح إنه في العقد الخامس لكنه يتسم بحيوية ونشاط كبيرين ..أني شخصيا أعرفه منذ سنوات. لقد كنت رئيسه في العمل قبل تقاعدي ولا أذكر انه غاب يوما عن عمله او تأخر عن القيام بمهمة كلف بها وكانت طبيعة عمله العمل في مناطق بعيدة في الصحراء كان يقوم يوميا بمتابعة خطوط الأنابيب من العثمانية و العضيليه مرورا بشدقم وحتى بقيق . لطيف المعشر ومظهره دائما حسن . وعقليته اقتصادية فعلى الرغم من كونه موظفا في الشركة الا نه استطاع أن يحسن توظيف أمواله في شراء الأراضي والمزارع والتي جعلت منه رجلا ثريا من حقه الآن ان يستمتع بأمواله فيما احله له الله ..وعلى فكره ابو سعد قادر وبأمواله وسمعته الطيبة أن يتزوج بنت بكر .. لا أرمله لكنه مرة أخرى أقولها لك بصراحة : هو شاريك .. وزواجك منه فرصة لك لا تعوض .. أما بالنسبة لخدمتي فلا تحملين همها .. فالبركة في زوجة شقيقك عبدالوهاب فهي والحق يقال
لاتقصر وهي قبل هذا وبعد هذا ابنة أخي يوسف رحمه الله وساكنه معنا في البيت .. وهذا يعني ليس هناك مبرر لتعليق عدم زواجك بخدمتي الله يبارك لك.
قالت : أبوي أنت بحاجة الى امرأة تعرفك تماما بعدما فقدت أمي .. وانا هذه المرأة التي يشرفها خدمتك , صدقني أبوي مالي نفس في الزواج و أشعر الان بحريتي وسعادتي بوجودك والاهم خدمتك والحمد لله أولادي شاغليني
عن التفكير في الزواج .
فقال : أنت مثل أمك الله يرحمها كانت عنيده وتتمسك دائما برأيها حتى لوكان هذا الرأي في غير صالحها و على العموم مازال لديك وقت للتفكير فالرجل الآن في مهمة عمل خارج المملكة ولن يعود قبل أسبوع . يعني تقدرين تقولين لديك عشرة أيام للتفكير واتخاذ القرار النهائي . حتى أرد عليه ..؟؟ !!
ناولته فنجان قهوة آخر وقالت : الله يكتب اللي فيه الخير .. وقبل ان تكمل عبارتها اذا بابنها فارس يقول مخاطبا جده : عساك جاهز يا جدي تقول لي حكاية النفط ؟1
وضحك الجد بعدما امسك بالرمونت كنترول وراح يبحث عن محطته المفضلة لمشاهدة أخبار التاسعة ..كانت الساعة الحائطية تشير الى التاسعة الا ثلاثة دقائق .. وقال باسما أطمئن يا ولدي بعد نشرة الأخبار أحكي لك أن شاء الله الحكاية من البداية حتى اليوم ..!!
لم تفهم الابنة من كلام ابنها ولا والدها شيئا وقالت ماتقولون لي أيش حكاية النفط ؟ انا صايره بينكم مثل الطرشان في الزفة..
فقال الجد : أبدا كل الحكاية أن المحروس ابنك ونحن قادمين عن طريق العضيليه سألني وهو يشاهد نيران الغاز المحترق عن قصة النفط في بلادنا العزيزة .. يبدو أن المشهد أثار في نفسه الرغبة للمعرفة ولقد وعدته أن أحكي له الحكاية عندما نصل الى البيت .. فقاطعته لا يشغلك هذا الزعطوط باستفساراته وأسئلته فهو دائما ملقوف .. ؟!
فقال والدها : أبدا لاهو ملقوف ولا ما يحزنون هذا دليل نباهة واهتمام بمعرفة الأشياء .. يبدو أنه طالع على جده .. لقد كنت في صغري أسال ابوي الله يرحمه عن كل شيء حتى الأشياء التي لا يمكن أن يتوقعها او يتصور يوما ما أن اسأله إياها .. اذكر مره سألته وبوجود والدتي رحمها الله هل تزوج والدتي عن حب .. فأجابني باسما ..ووالدتي تتطلع اليه بتوق : لم يسبق أن رايتها مطلقا قبل الزواج ففي أيامنا لم تكن الفرصة متاحة لذلك حتى ( شوفة ) السنة التي بدأت تنتشر في مجتمعنا هذه الأيام لم تكن موجودة فيما مضى .. ومئات الألاف من الأزواج والزوجات لم يسبق لهم رؤية بعضهما البعض الا ليلة الدخلة .. وأضاف وهو يحتضن حفيده
( الزعطوط ) تصدقين بالله يا بنتي بعض الزوجات ربما تمضي عليها سنوات دون أن يرى زوجها وجهها .. ! فقال حفيده طيب أبوي أنت شفت جدتي .. فا جابه ولا أنا يا ولدي .. تقاليدنا وعاداتنا في الماضي كانت تحول دون ذلك .. لكن بصراحة سبق لي وأن شاهدتها وهي طفلة عند الخباز مع أخوها الكبير كانا ينتظران خبزهما .. ففي الماضي وعلى الأخص في رمضان كانت بعض البيوت تقوم بعمل خبز خاص بها وترسل العجينة الى الخباز .. وبالصدفة كنت أنتظر دوري الذي كان بعدهما .. ومنذ تلك اللحظة وانا أتذكرها خصوصا وهي كما تعرف من جماعتنا وبيتها غير بعيد عن بيتنا ..
فقالت الابنة باسمة: ما شاء الله يا أبوي .. طالع خطير من صغرك
فقال وهو يربت على كتف حفيده : أبدا لا خطير.. الا عبد الله في ارض الله الظروف في بلدنا تجبر الواحد عندما يرغب في الزواج أن يضع أمامه عدة خيارات ومنها هل سبق وأن شاهد هذه الفتاة التي سوف تصبح زوجته بعد ذلك .. وأضعف الإيمان الاعتماد على الذاكرة لا الرجال فقط إنما حتى النساء يعتمدون عليها في اختيار عرائس أبنائهم فهناك فتيات من المستحيل ان تكشف على احد حتى القريبات من نساء العائلة .. ومن خلال الذاكرة ومشهد الانتظار عند الخباز وبعض المشاهد السريعة خلال أيام العيد تجمعت صور في الذاكرة عن جدتك وبعدها كان القرار الخطبة و الزواج ..فجأة وبلا مقدمات دخل عليهم أبنه فهد برفقة زوجته وولديهما عائدون من مهرجان ( حسانا فله ) الصيفي .. تقدما اليه صافحاه وقبلا رأسه وذهبا لتغيير ملابسهما ..
فقال الحفيد بس ما قلت لنا يا جدي بعد الزواج حبيت جدتي ( عايشه ) .؟ وفحصه الجد من قدميه الى قمة رأسه بنظرة حب وقال وهو يلعب بخصلات شعره الحريرية .. : طبعا يا ولدي حبيتها ولا ما كنت عشت معاها خمسون عاما .. مرت كمرور الماء بين الأصابع .. قال ذلك وابتسم ابتسامة تمزج بين طيبة متوارثة ووقار الكبار. وهو يردد الله يرحمها ويسكنها الجنة عندها عاد ابنه وزوجته وجلسا في المقاعد المقابلة .. وفي هذا الأثناء بدأت نشرة الأخبار وكانت العناوين مثيرة للحزن .. بغداد قصف أميركي يوقع 28 قتيلا وجريحا.. :حماس تفرق تظاهرة لأنصار فتح وتعتقل صحافيين .. أسلام أباد : انتحاري يفجر شاحنة مفخخة في قافلة عسكرية . أخبار الموت والإرهاب في كل مكان من العالم .. قال الابن الأكبر زهقنا من مسلسل الموت اليومي في العراق .. فقالت شقيقته الأرملة : معك حق لقد زهقنا من مشاهدة هذه الأخبار الدامية .. انه ليل طويل .. طويل ..
فقال الجد بعدما اعتدل في جلسته إن مطالعة الأخبار مهما كانت درجة معلوماتها لا تعطينا الصورة الحقيقية وراء ما يحدث .. نحن لا نعلم بحقيقة البواعث .. فقال الابن معك حق يا أبوي نحن نشاهد ونسمع ونقرأ الأخبار لكننا لا نعرف الأسباب الحقيقية للحروب او النزاعات وماذا يجري هنا او يجري هناك .. يبدو أننا في هذا العالم نعيش بعيدا عن الحقيقة ..
قال الجد ..لقد أصبح النفط هو العصب المحرك للعالم فالدولة التي لا نفط فيها أشبه بإ نسان مريض بحاجة دائما الى عناية ورعاية الآ خرين .. أما الدولة التي تملك النفط فهي كالإنسان القوي القادر على الحركة والعمل والفعل .. وبالتالي يحقق لنفسه كل طموحاته وتطلعاته المختلفة .. وبلادنا ولله الحمد حباها الله بنعمة الإسلام ووجود النفط في أرضها الطيبة .. وبالمناسبة ما نشاهده من أخبار موت ودمار في العديد من دول العالم يقف التفط خلفها بطريقة مباشرة أوغير مباشرة .. لذلك بات العالم لعبة النفط الكبرى ..
نهض الابن مندهشا من كلام والده واقترب منه وراح يطلب منه المزيد ..
بعدما جذب احد المقاعد الوثيرة وجلس بجواره .. وقال أستمر يا والدي انك تقول الحقيقة .. لقد سبق وان سمعت تحليلا في أحدى الفضائيات يشير الى نفس المعنى .. بل أنه يؤكد على أهمية النفط وكونه وراء ما يواجهه عالمنا من تحديات ومشاكل مختلفة ..
قالت فوزية زوجة الابن : كلام واقعي يا عمي .. لكن المثير هنا أن العالم يعرف حقيقة ذلك وان النفط وراء ما حدث من استعمار وحروب وحتى غزو لبعض الدول لقد درسنا في الجامعة جوانب عديدة عن البواعث والمسببات وراء ذلك .. لكن دائما أدرك الإنسان ومنذ القدم أهمية النفط بالنسبة لنمط حياته ومستقبله وقد أثبت النفط كفاءته وتميزه عن وسائل الطاقة الأخرى التي اكتشفها الإنسان حتى أيامنا هذه ..؟!
اهتز الجد من السعادة وهو يستمع لابنة شقيقه فوزية وهي تتحدث بمنهجية وموضوعية عن النفط .. وقال نعم يا ابنتي هذا هو الواقع .. لكن الله سبحانه وتعالى خص بعض المناطق في العالم بوجود النفط في أعماق أراضيها وعلى الأخص بلادنا العزيزة .. لكن قبل أن أتحدث عن حكاية النفط في بلادنا وهي إجابة طويلة على سؤال الصغير ( محمد ) يجدر بنا إن نشير الى تاريخ هذه الأرض وبالتحديد الجزء الشرقي من وطننا الحبيب .. فقالت الابنة الكبرى : أنتظر يا والدي قليلا لا تروي الحكاية الابعد أن نتاول طعام العشاء .. علشان تأخذ الدواء .؟!
أي نعم ياأبنتي من الأحسن الانتظار فحكاية النفط تحتاج لوقت طويل ربما لا أستطيع روايتها خلال ليلة واحدة ..
أمضى الجميع وقتا طيبا حول طعام العشاء وقد أدهش الجميع حرص الجد على رواية حكاية النفط من اجل عيون حفيده الصغير . بل انه طلب من ابنه أن يقوم بتسجيل الحكاية في شريط تسجيل حتى يستطيع الاستفادة من المعلومات التي تتضمنها الحكاية ..!!
راح الجميع ينظرون الى الجد بتقدير كبير وهو يمنون أنفسهم بسماع حكاية مشوقة عن نفط الوطن كيف بدأ ..؟
شعر الجد بفخر واعتزاز بنفسه كونه مازالت لديه القدرة على جذب
الا خرين اليه حتى ولو كانوا هؤلاء هم أولاده وبناته وأحفادهم .. تحلقهم حوله ورغبتهم الاستماع اليه والى أحاديثه على الرغم من وجود العديد من مغريات الترفيه لديهم من فضائيات وانترنت وكتب ومجلات دليل تقدير واهتمام وهذا في حد ذاته مكسب كبير له .. تذكر كيف كان يتحلق حوله زملاء ( اللين ) في الظهران بعد صلاة العشاء ليستمعوا اليه وهو يتحدث عن قراءاته في الكتب والمجلات الأجنبية وما تزخر به من حكايات وقصص غريبة وعجيبة حتى ان بعضهم كان يحرص على الحضور مبكرا ليجد له مكانا شاغرا بجواره .. ولا ينسى أن بعضهم كان يحرص على الحضور لغرفته أكثر من الحرص على الحضورلمشاهدة فلم الاسبوع في السينما المكشوفة .. بل أن جاره ابوليد والذي درس معه في دورة تدريبية بالجامعة الأمريكية’في بيروت يسميه ( بالحكواتي ) لكنه يختلف عن حكواتي بيروت اوحتى القاهرة بأنه لايقرأ من كتاب .. وهذه ميزة تميز بها فلديه القدرة على حكاية أي شيء وتذكر مختلف الاحداث وما سبق أن قرأه في الكتب والمجلات طوال عقود من مواضيع او تحقيقات او تقارير .. فذاكرته على الرغم من تجاوزه العقد الثامن مازالت قوية ويشعر بحيويتها فهو مازال يتذكر أيامه الأولى في عمله بارامكو .. وكيف تحمل مبكر العديد من المسئوليات مع زملاء السكن في ( البرستي ) وبعدها ( اللينات ) ومازال حتى هذه اللحظة يكاد يشم رائحة الغاز في مطبخ (اللين ) حتى شكل غرفته وديكورها الداخلي البسيط .. سريره وسرير شريكه ابوفهد في الغرفة ومكتبه الصغير على يسار مدخل الغرفة والصور الملصقة على سريره والتي نزعها من مجلات ( لايف) الامريكية والرسم الملون من مجلة ( بوست ) للفنان المدهش ( نورمل راكول ) والتي كلما شاهدها لايستطيع ان يخفي ابتسامته .. نعم انه يذكرها جيدا هي لوحة تصور طفل صغير كان يقف على كرسي الطبيب استعدادا لحقنه بابرة الدواء وهو ينظر بامتعاض لشهادة الطبيب البدين المعلقة على حائط العيادة ..؟!
اوحتى صورته مع مجموعة من زملاء الدورة الأولى الي درس فيها في الجامعة الامريكية ببيروت في احد ى الدورات المتخصصة في مجال عمله .. هاهم يقفون أمام مدخل الجامعة وهم يرتدون البنطلونات والقمصان البيضاء وحده زميلهم عا يض كان يرتدي قميصا قصير الاكمام وتبدو واضحة كرشه البارزة على الرغم من محاولته اليائسة في إخفاء كرشة بدفعه الى الداخل من خلال عملية شهيق طويلة ..؟!
جلسوا حوله بعضهم على مقاعد الصالة الوثيرة ذات الطراز الأمريكي وبعضه الآخر على السجادة الكبيرة .. ابنته الأرملة والتي تجاوزت الخامسة والثلاثون و أخذت الكثير من صفات والدتها بياضها المشبوب بحمرة .. شعرها الناعم والذي تخفيه تحت حجاب اسود مطرزة أطرافه بزخارف بسيطة ذات ألوان خضراء باهتة .. وزوجة ابنه والتي تشبه كثيرا سعاد حسني في شبابها .. بوجه طفولي وناعم وعينان واسعتان تشعان ذكاء وفطنة واضحة .. لم يكن شبيها بوالده فهو ربعة وله لحية قصيرة في مقدمة ذقنه تميل بشرته للون الحنطي .. اما حفيده والذي لم يتجاوز عمره العاشرة فهو يمتاز بوسامته وشعره الكستنائي الناعم
هكذا جلسوا حوله في اتتظار أن يبدأ الحكاية ..
قال الجد وهو يحتسي كوب عصير الليمون الحساوي اللذيذ ..كما أشرت سابقا فأن الله اكرم هذه الأرض بأن جعل في جوفها ثروة هائلة .. لكن يجدر بنا أن نتحدث قليلا عن تاريخ هذه الأرض وكيف كانت في الماضي السحيق .. قبل الميلاد كانت هذه الأرض موطنا للكنعانيين العرب وكانت ومنذ القدم معروفة بأرض النخيل .. ومن هنا انطلقت هجراتهم الى مناطق اخرى في العالم خصوصا الى الشام ولبنان وفلسطين وفي الألف الثالث قبل الميلاد وكما يشير الكاتب رشاد ابو شادور في راويته الشهيرة ( العشاق ) ان الكنعانيون العرب اعادو تشييد مدينة أريحا والتي تعتبر اقدم مدينة في التاريخ ثم انهم زرعوا في تربتها بذور النخيل التي عرفوها من قبل في موطنهم الأصلي جزيرة العرب .
ولم يكد يكمل جملته هذه حتى سألته ابنته هل لنا ان نعرف يا والدي شيئا عن الكنعانيون فقال باسما بالطبع يا ابنتي كتب التاريخ زاخرة بكافة المعلومات عنهم ومع هذا اختلف العلماء في تفسير معنى كلمة (كنعان) فبعضهم ذكر ان (كَنَع) أو (خَنَع) كلمة سامية بمعنى الأرض المنخفضة. وقد دعي الكنعانيون باسمهم هذا لنزولهم الأراضي السهلية واستقرارهم فيها تمييزاً لهم عن غيرهم الذين نزلوا الجبال والمرتفعات. والحقيقة أنهم سكنوا الجبال كما استقروا في السهول. وغيرهم ذهب إلى إنها كلمة (حورية) مشتقة من كلمة (Kuaggi) التي تعني صبغ الأرجوان الذي اشتهر به الكنعانيون. والذي نرجحه ان الكنعانيين دُعوا بهذا الاسم نسبة إلى جدهم الأول (كنعان) كما هي عادة العرب في تسمية قبائلهم، فيقولون
(بنو مخزوم) و (بنو لَخْم) و (بنو تميم) و (بنو هاشم) و (بنو كنعان)… و (بنو كنعان) هؤلاء كانوا يقيمون في البداية في أرضهم السهلية الواقعة على الساحل الشرقي للخليج العربي. وقد نسبت اليهم وسميت (بأرض كنعان) ولما نزحوا منها ونزلوا الشام حملوا معهم اسمهم واسم بلادهم الذي أعطوه لوطنهم الجديد ومن هؤلاء جاء الفينيقيون الذين استطاعوا بقدراتهم وإمكاناتهم وتميزهم ان يؤسسوا حضارة واسعة امتدت الى أصقاع الأرض ذلك لإ نها وكما يشير المؤرخون أنها أول أمة بحرية في التاريخ .. حتى أنهم سيطروا على معظم جزر البحر المتوسط حتى أمتدت مستعمراتهم من قرطاج في شمال أفريقيا الى كورسيكا وجنوب أسبانيا..
جلس الجد يحدثهم عن الكنعانيون والفينيقيون فاستنفد وقتا طويلا .. شعر فيه بحاجته للراحة .. فلقد تعود ومنذ عمل في شركة الارامكو أن ينام مبكرا .. قام لينام وسط دهشة الجميع لما أثاره حديثه من اهتمام ومعلومات .. جعل كل واحد منهم يشعر بأنه يستعيد مع هذا الجد الرائع شيئا مهما من تاريخ هذه الأرض الطيبة ..؟!!
في مساء اليوم التالي وبعد تناولهم طعام العشاء أستعد الجميع لسماع حديث الجد الشيق .
وراح يقول وهو يداعب حبات سبحته الكهرمانية :
لقد تحدث المؤرخ الاغريقي الشهير ( هيرودوت) عنهم في كتبه التاريخية فاشار الى تميزهم وإبداعهم في مجالات البناء والتجارة وفنون البحر والصناعات حتى انهم وراء اكتشاف اللون الأرجواني وهم من ابتكر وأخترع الأبجدية والتي تعتبر من أعظم ما قدمته الحضارة الفينيقية للبشرية وابتكرت هذه الكتابة عام 1100ق.م وقد تألفت من 22حرفا .
فقال الحفيد : أذن يا جدي أبناء هذه الأرض كان لهم دور كبير في الحضارة البشرية ؟
فقال الجد : بالطبع ياولدي هذه سنة الحياة .. فلكل الشعوب تأ ثيرولكل حضارة دور في خدمة البشرية ومنذ بدأت الحياة .. الحضارة الصينية لهادور وتأثير والحضارة الفرعونية لها دور و تأثير والفينيقية والاغريقية ونفس الشيء يقال عن الحضارة الأشورية والبابلية وبعد هذه الحضارات كان للحضارة الأسلامية الدور الأكبر في نشر الأسلام والمعرفة بين الشعوب .. وبالمناسبة فالاسلام بدأ في هذه الأرض مبكرا بل أن الإحساء والتي كانت تعرف في الماضي بهجر ( البحرين )
في بداية ظهور الإسلام أرسل الرسول ( ص ) اليها العلاء ابن الحضرمي الذي استطاع إقناع حاكم الإحساء آنذاك المنذر بن ساوي بالدخول في الإسلام وكان الرسول ( ص) قد أرسل مع العلاء برسالة هذا نصها : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله ( ص ) ” الى المنذر بن ساوي فإني أحمد الله الذي لا اله الا هوامابعد و فإن من صلى صلاتنا , ونسك نسكنا وأستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك ا لمسلم له مالنا وعليه ماعلينا, له ذمة الله ورسوله من أجابك من المجوس فهو امن ومن أبى فعليه الجزية “هكذا فإن قبائل عديدة أخذت تتتبع أخباره فمنهم من لم يسلموا لأسباب مختلفة وهؤلاء هم الأغلبية أما القلة فهم من دخلوا في الإسلام طائعين غير مكرهين عليه ومن هؤلاء قبيلة عبد قيس التي دخلت في الإسلام منذ وقت مبكر ومهدت لدخول أغلب سكان البحرين آنذاك في الإسلام حتى أصبحت هذه المنطقة هي ثاني منطقة تدخل في الإسلام بعد المدينة المنورة وقبل فتح مكة وهم أيضاً من بنوا مسجد جواثا الذي جاء خبره في البخاري حيث قال: (عن أبي جمرة الضبعي عن ابن عباس أنه قال: إن أول جمعة جُمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله، في مسجد عبد القيس بجواثا من البحرين) وجواثا مازالت اطلال مسجدها موجودا حتى اليوم بجوار بلدة الكلا بية شرق مدينة المبرز بالإحساء ..
اطرق الجد برهة كأنه يتذكر شيئا مهما ثم قال :
الإحساء او المنطقة الشرقية من المملكة كانت فيما مضى من زمن تشكل الجزء الأكبر من المنطقة الممتدة على الشاطىء الغربي للخليج العربي والذي يمتد من البصرة في الشمال الى عمان في الجنوب وكان تسمى هذه المنطقة اسم ( البحرين ) لفترة طويلة من الزمن وفي بداية الفتح الإسلامي .. وهذه المعلومات موجودة في العديد من كتب التاريخ المختلفة والجميل أن الاحساء حظيت كثيرا بما لم تحظى به منطقة اخرى في المملكة في مجال كتابة تاريخها وتوثيقه وذلك من خلال زيارة مشاهيرالمؤرخين و الرحالة والمستكشفين العرب والمسلمين والأجانب .. ولقد اطلق على اجزاء من هذا الاقليم أسماء مختلفة منها العدان – وهجر – والخط واطلق في عام 929 م 317هـ أسم ( الحسا) على قاعدة هذا الاقليم ومع مرور الايام شمل الاسم الاقليم بصورة كاملة .. وعن ذلك يقول ياقوت الحموي “الاحساء مدينة بالبحرين معروفة مشهورة ”
واستمرت ( البحرين ) الإحساء تتبع الخلافة الإسلامية في الحجاز او الشام او بغداد وفي عام 286هـ/ 899م قام أبوسعيد الجنابي بقيادة ثورة أغار فيها على عاصمتها ( هجر ) في السنة التالية واحتلها بعد أن تغلب على جيش الخليفة المعتضد ثم جمع جيشا وزحف به الى البصرة عام 311هـ واحتلها ونهبها ثم عاد الى الاحساء ( البحرين ) وفي عام 317هـ بنى بجانب مدينة هجر مدينة سماها ( الإحساء ) وهي التي نمت وأصبحت قاعدة للبلاد كما جاء في كتاب ( تحفة المستفيد ) هذا ويشير صاحب كتاب ( عنوان المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد ) الحيدري ماخلا صته” من أعظم بلاد البحرين وأشهرها “هجر ” وهي التي كانت قاعدة بلاد البحرين في الزمن المتقدم و فخربها القرامطة عن استيلائهم على البحرين وبنوا مدينة الإحساء ونزلوها وصارت قاعدة البحرين ”
كان يتحدث الجد وهو يقرأ مقتطفات من العديد من الكتب التاريخية التي تضمها مكتبته المنزلية والتي جمعها طوال العقود الماضية .. ثم تناول احد المجلدات ذات الأوراق الصفراء وقال : هذا واشتهرت الإحساء على مر التاريخ بمياهها وينابيعها الوفيرة وعن معنى الحساء قال المبرد في الكامل : ” الحساء جمع حسي وهو موضع رمل تحته صلابة , فإذا أمطرت السماء , على ذلك الرمل ونزل الماء فمنعته الصلابة أن يغيض و ومنع الرمل المسا م أن تنشقه فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء يقل حسي, وإحساء وحساء.”
وحين وصل الى هنا قال له حفيده لم تذكر لنا يا جدي حكام الإحساء قبل العهد السعودي .. فأجابه قائلا لا تستعجل يا ولدي سوف اذكر لكم ذلك فمدينة الإحساء التي بناها القرامطة والتي أخذت المنطقة فيما بعد ففي هذا العام أقدم القرامطة على تصرف غريب فلقد زحف زعيمهم الى مكة المكرمة وقتل فيها الحجيج ذلك العام واقتلع الحجر الأسود وعاد به الى الإحساء وبقي في إحدى قراها حتى عام 339هـ 950 م حتى أعيد الى مكة المكرمة بعد موت أبي طاهر القرمطي
.. صرخ الحفيد معقولة يا جدي الحجر الأسود كان في الإحساء لعدة سنوات .؟ أجابه وسط دهشة البعض من الأبناء والبنات الذين ليس لديهم علم بحكاية ( الحجر الأسود ) نعم هذا ما حصل وللأسف الشديد ..
فلقد قاموا ببناء كعبة با لقطيف وجعلوه فيها متصورين ان المسلمين سوف يحجون الى الحجر الأسود فلما يأسوا من ذلك ردوه الى موضعه بمكة المكرمة .. هذا وكانت للقرامطة محاولات غزوا عديدة للبلاد المجاورة للبحرين وحتى أبعد منها فلقد قاموا عام 360 هـ بغزو بلاد فارس وكذلك غزو مصر عام 375هـ هذا وزالت دولة القرامطة على يد “أبي البهلول العوام ابن أحمد بن يوسف الزجاج ” حيث استولى على جزيرة أوال ( البحرين ) التابعة للإحساء في الماضي واستولى بعد ذلك على القطيف وكان لثورة ” عبد الله العيوني ” على القرامطة في الإحساء وإخراجهم منها عام 467هـ دورا كبيرا وهاما في القضاء عليهم حيث استطاعت هذه الثورة التسبب في زوالهم نهائيا .. ؟!
كان الجميع يتابعون حديث الجد الشيق بعضه يرويه من ذاكرته والبعض الآخر يقرأه من بعض الكتب التي دائما الى جواره .. توقف قليلا لاحتساء شراب عصير الليمون .. وكان في هذا مهلة له لإحضار بعض المراجع والكتب التي قد يحتاجها ليواصل حديثه : بعد زوال القرامطة وحكمهم المشين . انتقل الحكم في المنطقة من العيونيين الى بني عامر ( عامر بن عوف ابن مالك بن عامر بن عقيل ) وذلك عام 642هـ وبعدها انتقل الحكم الى ال زامل الجبري وبعدها الى ال مغامس وبعد ذلك استولى البرتغاليون على المنطقة الاحساء عام 921 هـ
راحت أبنته تحدق فيه وقالت ماذا عن استيلاء العثمانيون ( الأتراك ) للإحساء ..؟
آه . لا تشغلين بالك . فالحكاية طويلة.. فمن تسألين عنهم استطاعوا الاستيلاء على الإحساء عام 957هـ حيث جاء سليم محمد باشا بتوجيه من السلطان سليمان . وتم له ذلك وبنى فيها مسجدا بحي (الكوت )هذا وأستمر حكم الأتراك للإحساء حتى عام 1081هـ ثم حكمها بني خالد واستطاع براك بن غدير الذي أعلن نفسه ملكا طرد العثمانيون ( الأتراك ) واستطاعو كما يشيركتاب تاريخ شرق الجزيرة العربية لأحمد مصطفى ابوحاكمة أن يؤسسوا بني خالد دولة قوية في هذه المنطقة حتى ظهرت الدعوة السلفية على يد الشيخ” محمد بن عبدالوهاب ” في نجد فثار صراع كبير بين ال سعود حماة الدعوة وأل عريعر زعماء بني خالد انتهى بتغلب ال سعود فاخضعوا الإحساء لحكمهم عام 1207هـ وخلال هذه الفترة استطاع السعوديون إعادة جزيرة (أوال ) الى الإحساء وكونوا من هذه المنطقة وحدة سياسية قوية وهامة تابعة لهم ..
ومع تنامي قدرات السعوديون راحوا يتطلعون الى التوسع في بلدان الخليج العربي شمالا وجنوبا كما يشير الى ذلك ( لو يمر ) في كتابه دليل الخليج ومع تزايد خطرهم الذي بات يهدد الدولة العثمانية في أقاليمها في العراق والشام والحجاز سيرت عليهم حملة من قبل واليها في مصر آنذاك محمد على باشا الذي استطاع هو وأبناؤه ان يقوضوا عرش الدولة السعودية الأولى حين تمكن ابنه إبراهيم باشا من احتلال الدرعية عام 1818م ثم توجه الى الإحساء فاحتلها لمكانتها المعروفة اقتصاديا واستراتيجيا .
وكانت الأمور تسير في صالح إبراهيم باشا الا أن والده محمد على تلقى توجيهات من الباب العالي بالانسحاب من الإحساء ونفذ محمد على الأوامر وانسحبت قواته من الإحساء عام 1819م ونفس الشيء يقال عن قواته في نجد وخلال هذه الفترة عاشت الإحساء فترة استقلال محلي ولكن الأتراك عادوا الى نجد والإحساء من خلال حملة عسكرية بقيادة خورشيد باشا عام 1838م ولكن الحكومة البريطانية وقفت بقوة امام طموح الأتراك ضد توسعهم وطموحهم في المنطقة الخليجية وعادت الإحساء تخضع للسعوديين من جديد حتى عام 1871حينمنهم وخضعت مرة أخرى للأتراك حتى عام 1913م عندما استطاع المؤسس طيب الله ثراه استعادة الإحساء من أيدي الأتراك ورحيل أخر جند ي تركي عن طريق ميناء العقير والإحساء تعيش عهدا متميزا وأمنا مستقرا حتى اليوم ..
بعد استراحة قصيرة تناول فيها الجد سلطة فاكهة طازجة وأدويته راح يواصل حديثه قائلا :
اما حافظ وهبة في كتابه جزيرة العرب فيقول عن جغرافية الإحساء :القسم الاكبرمن الإحساء سهل صحراوي وتقع في الجهة الغربية عن ساحل البحر حيث تتشابه البلاد مع تهامة ويوجد كثير من التلال غير المتصلة بعضها ببعض تستخدم كحدود للمناطق وترتفع الارض في القسم الداخلي الى غربي المنطقة عن باقي السهل ويوجد خط من التلال على طول وادي المياه وجبل الطف ممتدة الى الجنوب ويمتد مرتفع الصما ن الصخري موازيا لساحل الخليج متوسطا بين الإحساء والدهناء حيث يفصلهما هذا القسم عن نجد ..
وهنا ترتفع اليه العيون بإعجاب وهي تطلب المزيد فيقول وهو يقرأ في كتاب الشيخ حافظ وهبة : واهم أودية الإحساء هو وادي “فروق” في الجنوب الغربي وهوقسم من وادي المياه والمنطقة الساحلية سبخة على العموم ويوجد بها عدد من الأبار ماؤها قريب من سطح البحر والمراعي والاقسام الصحراوية من المنطقة أهلة بالبدو وأغنى بقاع المنطقة واحتا الاحساء والقطيف حيث تكثر المياه من أبار وعيون ونهيرات صغيرة .؟!
نهيرات صغيرة يا جدي قالها الحفيد مستغربا ؟ نعم يا ولدي كانت الإحساء وبشكل خاص تنتشر فيها الأنهر الصغيرة المنسابة والمتدفقة من ينابيع وعيون المياه المنتشرة فيها والتي بعد تراجع منسوبها قبل عقود قليلة تم تنفيذ مشروع الري والصرف والذي أفتتحه الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز عام 1392هـ . وهو مشروع كبير يسجل من ضمن مشاريع الدولة العملاقة . وكل ن يشاهد قنواته وعلى الأخص في البدايات كان يشعر بالفخر والزهو .. في السنوات الأخيرة تراجع منسوب المياه عيون الإحساء وللأسف بل أن بعضها أصيب بالجفاف مما جعل وزارة الزراعة ومن خلال هيئة الري والصرف تقوم بتركيب مضخات ضخمة لسحب المياه من الأعماق وضخها عبر قنوات الري لتلبية حاجة المزارعين للمياه ..؟!
قال الابن بصراحة تصرف جميل ومشكور
ياليت يا أولاد نقوم بكره بعد صلاة العصر بجولة على الطبيعة على الاماكن السياحية في الإحساء ..ويدخل عليهم لحظتها الابن الأوسط قادما من الرياض.. حاملا حقيبة كمبيوتره الشخصي .. قبل رأس والده واحتضنه بحرارة .. وهو يقول باسما : جلستكم حول الوالد مثل جلسة الأطفال في برنامج ( بابا حطاب ) الشهير في تلفزيون الظهران أيام زمان .. فقالت شقيقته : كيف عرفت عن برنامج بابا حطاب وأنت مولود بعدما توقف البرنامج بسنوات .. ؟ فأجابها وهو يضع الحقيبة جانبا وعليها غترته وعقاله : البركة في عدد قديم من مجلة ( القافلة ) كنت في زيارة منزل زميل لي في العمل قبل أسابيع وبالصدفة كانت لدي والده بعض المجلدات لهذه المجلة وعند ما تصفحت احدها وجدت تحقيقا مصورا عن البرنامج ولولا الحياء لطلبت منه شراء هذه المجموعة فهي عبارة عن سجل دقيق لمختلف الأنشطة والفعاليات التي جرت خلال العقود الماضية منذ بدأت المجلة في الصدور .. أنها تاريخ لهذه المنطقة المعطاءة ..
فاذا بوالده يقول وهو مازال ممسكا بكتاب حافظ وهبه بيده اليسرى وفي يده اليمنى سبحته: صدقت يا ولدي هذه المجلة تاريخ مشرق في صحافتنا المحلية ولها فضل كبير في نشر الثقافة والمعرفة بين كافة موظفو الشركة والبعض من أفراد المجتمع عشاق القراءة ..! واضاف الجد الم تلاحظ شيئا في هذه المجلة خصوصا أسرة تحريرها .. اذا كنت شديد الملاحظة فسوف أهديك شيئا ثمينا تقديرا لذلك ..؟
فقال الابن باسما نعم ياولدي لقد لفت نظري أن مدير الشركة (ارامكو السعودية ) الاستاذ عبدالله جمعة كان يوما ما مديرا لتحرير ها .. فقالت الابنة ماشا الله .. كان مدير تحرير للمجلة .. فقال والدها نعم … وهكذ يكون الطموح والعمل لاشي مستحيل في هذه الحياة .. حتى وزيرالبترول والثروة المعدنية ( على النعيمي ) كان يوما ما مراسلا بين مكاتب الشركة المهم أن يعمل الإنسان بجد واجتهاد والبركة على الله .. بعد دقائق من تبادل الحديث مع الابن القادم من عمله بالرياض .. كان الجد مستسلما لنوم عميق لم يفق منه الا على موعد صلاة الفجر .. وبعد الصلاة تناول كوبا من الحليب الساخن وعاد الى النوم مطمئن البال والخاطر .. استيقظ في الصباح التالي وقد غمرت أشعة الشمس جانب من سريره وتثاءب في نشاط وتطلع الى ساعته : الساعة تجاوزت التاسعة والنصف صباحا وكان يشعر بجوع ازداد وهو يأخذ حمامه اليومي.. وعند خروجه ازداد إحساسه بالجوع ولم يترد ان يلعن أدوية السكر التي دأب على تناولها يوميا فهي وراء هذا الإحساس اللعين .. عندما خرج الى الصالة إذا بابنته الأرملة : تصبح عليه وتسأله ماذا يريد أن يأكل في طعام الإفطار ؟ فقال لها كالعادة .!
ابتسمت الابنة ابتسامة لم تخل من عتاب وهي تقول : أبوي لابد من التغيير . كل يوم بيض مسلوق وتمر ولبن رائب . معدتك ما شاء الله ما تزهق ..؟ قالت ذلك وتوجهت الى المطبخ ..و بعد دقائق عادت حاملة صينية الإفطار . وضعتها أمامه على الطاولة الصغيرة وجلست تغلب صفحات الجريدة ..
كان والدها قد بدأ يتناول التمر .. وهو في قمة السعادة والحبور .. انه يكاد يرى غابات النخيل المنتشرة في منطقته .. نخيل الخير .. هذه الأشجار التي باركها الله وانعم بها على هذه الأرض الطيبة بل وزاد من عطائه بأن وضع في جوف أرضها الذهب الأسود ..
وضعت الجريدة جانبا وقالت لا جديد .. نفس الأخبار التي نسمعها في التلفزيون نقرؤها في الجريدة .. فلا تحليل ولا تأويل . ولا تقارير ولا تحقيقات مثيرة .. يستطيع الواحد أن يتصور ماذا سوف ينشر غدا في هذه الجريدة أوتلك الا فيما ندر .. مع أن البلد مليانه مواضيع وأخبار وقضايا ومشاكل وحكايات .؟!
رفع والدها نظره اليها من خلف نظارته المقعرة وقال : يبدو أن هوايتك للصحافة مازالت مسيطرة عليك .. أنت تذكرين بالراكب الذي يجلس بجوار السائق . دائما يشعر بأن السائق الذي يقود السيارة حتى ولو كان سائقا محترفا هو دائما على خطاء .. بل وكأنه سوف يتسبب في حادث لا سمح الله .. فعملك قبل زواجك من المرحوم في الصحافة يشعرك دائما بأنك مثل هذا الراكب ..؟ وتنظرين دائما الى عمل الآخرين بأنه عمل قاصر ..؟!
ومع هذا معك حق الى حد ما فيما تقولينه .. فبعض الصحف وللأسف باتت تعتمد على ما يصلها من وكالات الأنباء و الأخبار أكثر من اعتمادها على العمل الصحفي الميداني الا فيما ندر ..
شعرت الابنة باحمرار خديها بشدة ولكنها فوجئت بأفكار والدها ووجهة نظره التي سبرت غورها كأنه حقيقة يقرأ أفكارها بل أنها تتساءل عن مدى تقييمه لمشاعرها كأرملة شابة ترملت صغيرة .! وسألها وكأنه يعرف ما يدور في ذهنها :
هل فكرتي فيما طلبته منك يوم أمس ..؟
أعني هل أنت موافقة على خطوبة أبو ناصر..؟
لم تستطع إخفاء خجلها فكاد فنجان القهوة ينساب من يدها وهي تقدمه له ولسماعها لفظ الخطوبة وقالت بصوت ناعم :
أبوي الله يخليك .. ما تجوز من هذه الاسطوانة .. هل أنت متضايق من وجودي في بيتك ..؟
متضايق .. افا يا بنتي .. أنت قطعة مني .. لكن مثل ما تشوفين العمر يركض وراء المصير والنهاية المحتومة .. وأحب بصراحة أطمئن عليك .. فالمرأة زواجها ستر .. والحمد لله أبو ناصر مثل ما سبق وأخبرتك رجل يشترى.. وأنت حرة .. لكن لوضعي وشيخوختي دافع كبير وراء الإسراع في الموافقة على طلب الرجل ..
أيقنت الابنة أن والدها حريص عليها وشعرت برغبة جامحة في تقبيل رأٍسه .. لم تتردد وضعت دلة القهوة جانبا وراحت تقبل رأٍسه ويديه وقالت : الله يكتب اللي فيه الخير .. أترك لي فرصة كم يوم ..؟!
قالها باسما : وعد .. كم يوم بس ..؟
قالت وعد .. كم يوم !!
صمت لبرهة ثم قال وهو يتناول اللبن الرائب : على فكرة يا بنتي موعدنا اليوم بعد صلاة العصر جولة في ربوع المنطقة .. جهزي مع الشغالة عصير ليمون .. وماء وقهوة وشاي .. وأي شيء تحبون تأخذونه معا كم ومن باب الاحتياط أكدي على الجميع الموعد خلال وقت الغداء .. أبشر طال عمرك .. نسيت أقولك أن حفيدك : كاتب ورقة بخط عريض وواضعها بجنب سريري قبل ما ينام البارحة .. يذكرني بموعد جولة اليوم .
بعد صلاة العصر .. كان الجميع قد صعدوا في السيارة العائلية الكبيرة
قال الجد والسيارة تقطع الطريق في اتجاه جبل قاره :
لاتكتمل زيارة الإحساء دون مشاهدة أعجوبة الحياة .. جبل قاره .. البارد صيفا والدافىء شتاءا هذا ا لجبل الذي يسترخي بكروشه واطرافه بين غابات النخيل شرق مدينة الهفوف وتغفو بهدوء بين أطرافه قرى عديدة ( القارة التي حمل اسمها بفخر واعتزاز .. والدالوة أول من يستقبل القادم للجبل من المدينة والتهيميه .. والتويثير ) وغيرها من القرى ..
والجبل الأعجوبة اخذ شهرته لما يمتاز به من طبيعة وصفات لاتتوفر في جبل آخر في العالم .. فمغاراته العديدة التي تخترقه وتمتد الى مسافات بعضها على شكل غرف تكونت بفضل العوامل الجوية ومجاري المياه التي كانت تنساب داخله فيما مضى من زمن .. حكايات تقال .. وأساطير تعاد يرويها الأجداد للأبناء والأبناء للأحفاد لتستمر حكاية جبل قارة .. حكاية لا تنتهي وأسطورة محفورة في ذاكرة الأجيال من أبناء الإحساء .. ويقال ان هناك عين ماء في أعماق المغارات الداخلية للجبل لكن كيف الوصول لهذه العين وبعض الممرات تضيق لدرجة من الصعب المرور منها الا لبعض أشعة الشمس ..!! والمياه أثناء هطول الأمطار الغزيرة ..!!
والمدهش أن داخل الجبل لا تعيش فيه الحشرات ولا الزواحف
ويرتفع الجبل في شموخ حتى 680 قدم فوق مستوى البحر ويمكن الوصول الى قمة الجبل بسهولة من أماكن متفرقة محددة ومن الصعب الصعود للقمة من أي موقع غير هذه الأماكن المعروفة خاصة لأبناء القارة .. ويشير التاريخ الى استخدام الملك عبد العزيز طيب الله ثراه لقمة الجبل مكانا دفاعيا خلال فترة حربه مع العجمان
كانت مشاهدة طبيعة الجبل مثيرة لدهشة الشغالة التي رافقتهم فهذه أول مرة تصحبهم الى هذا المكان الجميل .. اتجه الجميع الى داخل المغارة الرئيسية .. اما هو فقد جلس على أحد المقاعد الخشبية المجاورة للكا فتيريا الوحيدة بجوار مدخل الجبل, وظهره للجبل وأمامه غابات النخيل في مشهد لا أجمل ولا أروع .. واخذ يفكر في جمال مدينته .. انها ليست مدينة بل واحة غنا كما كتب عنها الدكتور فيدال مؤلف كتاب ( واحة الإحساء ) .. نعم انها ليست مدينة بل تاريخ في أرضها تمتزج الحضارات والأساطير بالواقع المعاش .. ومن هنا من هذا الموقع الذي يجلس فيه يستطيع أن يرى المساحات الهائلة لطبيعة وجمال الإحساء الفاتنة .. وعند سفح الجبل تناثرت بيوت القرى المحيطة بالجبل .. بيوت طينية وبيوت أسمنتية وبعض البيوت باتت امتداد لمغارات الجبل التي تقع على أطرافه المختلفة ..
كان اثر الجولة على أفراد الأسرة أكثر من جيد فطوال مساء ذلك اليوم ولاحديث لهم الا عن جبل قاره والمنتزه الوطني ومشروع الري والصرف وغابات النخيل والاهم مجموعة الصور الرائعة التي التقطتها عدسة كاميرا زوجة الابن فهي تهوي التصوير و تحسن التقاط الصور من زوايا تجعلها جميلة بل ورائعة .
الى مناطق أخرى قرر الجد ان يصطحبهم . ترك لهم اختيار جولة الغد .. فوقع الاختيار على ميناء العقير .. على أن تبدأ الجولة مبكرا حتى تتاح لهم فرصة الاستمتاع بشواطئه الجميلة ..
تحت ظلال أشجار النخيل جلسوا يتناولون طعام الغداء الذي أعد في البيت مسبقا وتم تسخينه .. وأمامهم تبدو من بعيد مباني الميناء القديم والى جواره الجمارك وقلعة الميناء .. بعد صلاة العصر وبعد أن خفت درجة الحرارة أتجه الجميع في سيارتهم العائلية الى الميناء
ولم يستطع الجد أن يصف لهم تلك الأحاسيس والمشاعر التي تملكته حينئذ : اعتزاز بالتاريخ وذكريات الماضي
من هنا عبرت سفن الفتح الإسلامي التي اتجهت الى الشرق ومن هنا غادرت السفن التجارية المحملة با لتمور والخيرات الى العالم
كانت تسير السيارة في طرق الميناء فيخيل اليه أن أمواج البحر الكبير تحدثه عن ما شهده هذا الميناء من أحداث تاريخية وتجارية واقتصادية ونشاطات إنسانية مختلفة .. كل ماعاشه هذا الميناء من أحداث تكاد تتجسد أمامه في طرق السوق .. الحوانيت .. المخازن .. ساحة الجمرك .. والخان حيث كان يقيم المسافرين وحتى أماكن رسو السفن .. وكل ما قرأه في الكتب التاريخية والمطبوعات التي تحدثت وأشارت الى دور العقير
الميناء والتاريخ وما كان له من مجد وفعل , يكاد يشاهده في كل مكان في الجدران التي تغير لونها بفعل حرارة وضوء الشمس والأيام .. أخشاب الأبواب والنوافذ المتأكلة وفي تصاميم مبنى الجمارك الجميل .. وفي أشجار النخيل المتناثرة حول الميناء والشواطىء… من هنا كانت تنطلق قوافل الجمال المحملة بالبضائع المختلفة القادمة من خلال السفن وكان معدل الجمال التي تغادر الميناء والمحملة بالبضائع تتراوح مابين 200الى 300 جملا أسبوعيا , القادمة من البحرين والهند ودبي والكويت والبصرة وحتى ايران وهي تتجه الى أسواق الإحساء والرياض ومدن المملكة الأخرى كما كانت تصدر منه صادرات المملكة , وهنا في هذا المكان شهد توقيع العاهدة الشهيرة بين المملكة وبريطانيا وأصبح بموجبها الملك عبد العزيز ملكا على نجد والإحساء والقطيف والجبيل وتوابعها في ظل الحماية البريطانية
وقعت المعاهدة في 26 ديسمبر 1915م بين الملك عبد العزيز
والسير بيرسي كوكس وهو ممثل الحكومة البريطانية, نصت المعاهدة على اعتراف بريطانيا بأن مناطق نجد والإحساء والقطيف والجبيل تابعة لابن سعود كما تنص المعاهدة بالا يتنازل أل سعود عن أي جزء منها لاي دولة أجنبية دون موافقة مسبقة من بريطانيا مقابل اعترافها باستقلال نجد وتقديم بعض المساعدات
من هنا جاء الرحالة المشاهير .. نيبور .. شكسبير .. كليبر .. ارنولد ولسون .. لويمر .. فلبي .. وليمسن .. كيلي. فيدال .. وعبر مشاهير الرحالة والمؤرخون العرب والمسلمون من هذا الميناء الشهير .. جاء القزويني و أبن بطوطه .. أبن بشر .. أمين الريحاني ..خير الدين الزركلي.. فؤاد حمزه .. وحتى الاميرة اليس حفيدة الملكة فكتوريا والتي زارت الاحساء عام 1357-1358 هـ وغادرت مينا العقيرالى البحرين ..
ولابد أنه مكث طويلا وهو يستعيد جوانب من تاريخ العقير وهو يتجول مع أولاده وأحفاده في السيارة بجوار الشاطىء .. فلقد ظل هكذا حتى توقفت السيارة بجوار أحدى المظلات الا سمنتيه الجديدة التي أقامتها البلدية في المنطقة الشمالية من الشاطىء .. كان وقتا جميلا فغروب الشمس بجوار البحر وأشعتها الهاربة في بحر السماء الواسع وهي تترك أثارها على سطح البحر من خلال انكساراتها الضوئية تشكل لوحة رائعة من إباع الخالق العظيم .. تطلع الى المنظر الجميل .. مياه لامتناهية زرقاء .. وأسرته كم هي سعيدة وهي تستمتع بحضورها الى هنا .. هاهم أحفاده الأطفال يتقافزون ويتراكضون في مشاهد طفولية لا تنسى ..
استمرت الصور والرؤى في التوالي على ذاكرة ابنته الكبرى .. فهي تتذكر الان زوجها الراحل عندما حضرت معه قبل سنوات لم تكن هذه المظلات موجودة ولاحتى هذه الطرق الازفلتية .. أنها تذكر كيف قضت معه لحظات حميمية رائعة .. كانا لوحدهما وثالثهما سيارتهما الصغيرة كان الجو هادئا ورومانسيا للغاية حتى انها عبرت عن رغبتها أن تستحم معه داخل البحر .. لكن لعدم وجود ماء عذب بجوارهما القيا هذه الفكرة الجريئة .. ومع هذا تركا لا قدامهما حرية الانطلاق في السير على الشاطىء المبلل بماء البحر بل وحتى الخوض فيه .. هل كانت السنوات القليلة التي عاشتها معه مجرد حلم ؟ او فلم قصير استمتعت بمشاهدته وعاشت أحداثه .. ام أنه شيء حدث وانتهى بوفاته رحمه الله .. لا لم ينتهي هاهم أبنيه يلعبان أمامها على الشاطىء الذي شهد يوما ما لعبهما ومرحهما واستمتاعهما بمباهج الحياة الزوجية التي للأسف لم تطول ..؟!
ماذا تقول لوالدها ألان : هل تشكره على دعوته لهذه الجولة الرائعة والتي أعادتها لذكريات أروع .. أم أنها تعاتبه لانه حرك البركة الراكدة منذ زمن في داخل ذاكرتها .. ماذا تقول له ؟ وهو يطالبها الآن بالموافقة على خطبة أبو ناصر ..؟ وهل هذا الرجل يستطيع أن يفجر بداخلها مشاعر وعواطف جديدة تعوضها عن تلك المشاعر والعواطف التي فقدتهما بعد رحيل زوجها الحبيب .. ؟ ليست تدري تسأ لت مندهشة من هذا الخاطر .! وقالت لنفسها : والدي معه حق أنني امرأة وحيدة وسوف أكون وحيدة أكثر عندما يرحل والدي يوما ما .؟ هاهي زوجة اخي تسير معه على الشاطىء ويدها في يده وشقيقي الآخر يتجول هو أيضا مع والدي, والأطفال يلعبون , وانا أجتر الذكريات والصور .. رهيبة الحياة عندما يكون الإنسان فيها وحيدا, أنني اغبط كثيرا شقيقي وزوجته وهما في مشهدهما الرومانسي يدا بيد وحديث هامس بين الأنامل ونظرات العيون ..؟!
شعرت بأن قلبها ينبض .ينبض بدت نبضاته سريعة وعالية حتى أنها حمدت الله أنهم جميعا بعيدون عنها .. حتى لا يشعروا بما تشعر به.. لاحظت أنها تكرر النظر الى شقيقها وزوجته .. وتتمنى لوكان زوجها الراحل معها في مثل هذا المشهد .. مضت سنوات لم تشعر فيها بهذا الإحساس .. بل أن صديقتها وابنة خالتها سارة والتي
لا تخفي عنها شيئا قالت لها أكثر من مرة .. إنها تظلم نفسها بعدم زواجها بعد المرحوم وعلى الأخص أن هناك أكثر من واحد قد تقدم للزواج منها بعد خروجها من شهور العدة ..؟! أن فكرة الزواج من جديد فيما مضى كانت غير ممكنة , أصبحت اليوم وبعد الحاح والدها ووعدها له أن تجيبه خلال الأيام القادمة أصبحت فكرة حقيقية ومسيطرة على والدها .. تتعانق أصابع الزوجين تحت قرص الشمس الذي راح يختفي في بحر السماء الواسع . وشمس الماضي تتأجج داخل أعماقها.. تحرق أحشائها… تريد أن تصرخ
أن تقول لهم شيئا , أنها مازالت شابة ومازالت امرأة مرغوبة ومطلوبة للزواج .. ولكنها بصراحة تخجل أن تقول أنها تريد الزواج مرة أخرى ..ماذا سوف يقول عنها البعض من صويحباتها اللواتي عشن معها شهور من الحزن والبكاء والمعاناة بعد مصيبتها في وفاة زوجها لقد شعرت بعد وفاته بأنها أشبه بطفل فجأة حرموه من رضاعته . فلا حليب ولاحنان .. كانت تشعر بموتها البطيء
موته كانت مصيبة .. ولكن رحمة الله جعلت هذه المصيبة والكبيرة في آن تصغر شيئا فشيئا بل أنها تكاد تتلاشى لولا ومضات تشرق بين فترة وأخرى تذكرها بالمرحوم ..ماذا تقول لطفليها لو تزوجت .. عن الزوج الجديد هل تقول لهم أنها تزوجته لأنها تخضع لسنة الحياة ولابد لها مما ليس منه بد .. فالزواج سنة الحياة .. ومن الضروري أن تعيش حياتها من جديد .. أن تتمتع .. ان تترك أصابعها يديها تعانق أصابع يديه يكفي ما مضى من سنوات وهي أرملة .. خلالها انصرفت لتربيتهما والعناية بوالدها وخدمته .. لقد حان الآن أن تهتم بنفسها .. يكفي العشرات من الرجال الذين ترددوا على بيتهم طالبين الزواج منها رجال أصحاب مراكز مهمة في مدينتها وحتى من خارج مدينتها كانت دائما تقول لوالدها وأخوتها أنها أخذت نصيبها من الحياة ويكفي طفليها محمد وحمد نعم يكفي .. تقول لهم ذلك وتهرب الى غرفتها .. أما اليوم .. بل الآن وهي تشاهد عناق الأصابع .. فلقد حرك المشهد شيئا ما داخلها .. شيئا يثيرها يهزها .. هل هي الغريزة البشرية عادت من جديد تجد طريقها لجسدها بعد بيات ..؟ ما أن انتهت من تفكيرها هذا حتى سمعت صوت شقيقها يوسف يطلب منها الاستعداد للمغادرة .!
وهزت رأسها بالموافقة وبدأت تجمع في حقيبة الرحلة دلال القهوة والشاي والأكواب .. الشمس الغاربة على أطراف الأفق صفراء ضعيفة وزوار الشاطىء راحوا يغادرون المكان الى مناطقهم ومدنهم وقراهم حاملين في سياراتهم معداتهم وأشيائهم المختلفة ..
طلب الجد من أحفاده الصغار أن يسارعوا في جمع المخلفات وبقايا الرحلة وهويقول لهم معاتبا بلطف : عيب الواحد يترك خلفه مخلفات كان سببا في وجودها . بسرعة انطلق الأطفال في جمع أوراق الكلينكس وأكياس البطاطس والحلويات التي اختلطت بطين الشاطىء ورماله وداستها أقدامهم الصغيرة . صعد الجميع الى السيارة بعد أن أطمئن الجد الحريص على نظافة المكان وعودته الى طبيعته السابقة ..؟ ! بعدما وضعا المخلفات في صندوق القمامة .!
قبل أن تغادر سيارتهم الشاطىء سألهم الجد : عن العقير وبحره الهادي ؟ فردد الجميع أنهم سعدا جدا بزيارتهم للمكان واستمتعوا بمشاهدة أثار العقير ومبانيه التاريخية .. بل أن زوجة الابن قالت أنها سوف تكتب تقريرا مصورا وتنشره في المنتدى الذي تشارك في عضويته وأضافت : منذ اللحظة الاولى التي وصلنا فيها للعقير وانا أفكر في كتابة موضوع عنه وطوال جولتي في الميناء والشاطىء القديم والمنطقة الجديدة وأنا أفكر فيما سوف أكتبه ينهشني الشوق الى ذلك .. وأشعر بالأسف لانني لم احضر الى هنا قبل هذه المرة .. اذكر عندما كنت طفلة صغيرة حضرت مع الوالد والوالدة لكنني لم أعي وقتها ما وعيته اليوم من مشاهد وتاريخ ..
تجاوزت السيارة مدينة العيون .. هاهي بوابة المدينة الصناعية ولمح الجميع القطار القادم من الدمام في طريقه الى الرياض مرورا بمحطة الهفوف .. قالت الابنة الكبرى مندهشة : ماشاء الله مدينة العيون زحفت للطريق العام .. أجابها والدها : من هنا خرج الشاعر الشهير ابن المقرب العيوني .. فقاطعه حفيده .. جدي لا تنسى بعدتقرأ لنا شيئا من شعره واضاف أكيد حافظ من شعره الكثير .. فقال يعني بعض القصائد….؟!
وكان أحفاده الصغار يتهامسون أعجابا بجدهم ولطفه وسعة معلوماته.. ثم أيضا بحبه لهم وحرصه على إسعادهم بهذه الجولات
داخل مدينتهم الكبيرة بل وحكاياته التي لا تنتهي عن منطقتهم ارض التاريخ والنخيل والنفط .
طغت عليهم فرحة لا تصدق عندما اخبرهم جدهم بان برنامج الغد سوف يشتمل على جولة صباحية لسوق الخميس وجولة قصيرة في منطقة الكوت التاريخية مرورا بسوق القيصرية التاريخي والذي يعاد إنشائه من جديد بعد كارثة الحريق الذي تعرض لها قبل سنوات .. واذا كان هناك متسع من الوقت فسوف يقومون بزيارة لبعض الحصون والقلاع الشهيرة بالمدينة ..
أضواء شارع الظهران بالمبرز تتضح .مساء جديد يتبدى أمامهم والشوق لحكايات جدهم يدب في نفوسهم .. موعدهم الساعة التاسعة
دخل الجد غرفته واسترخى في فراشه طلب من ابنته أن توقظه لصلاة العشاء . نعاس شديد الم به بعد يوم حافل من التمشية وراح في نوم عميق ..
أيقظته أبنته لصلاة العشاء .. قام ودخل الحمام .. استحم وتوضأ
عادة له حيويته , شعر إنه أكثر نشاطا ,وتوجه الى المسجد .. حمد الله كثيرا وهو يرى زميله أبو مشعل وهو يخرج من المسجد على كرسيه المتحرك .. هذا الرجل من اعز أصحابه كانوا معا في أ لظهران
صافحه بحرارة .. وتعاتبا فكلاهما كان يشعر بالتقصير تجاه ألآخر
أبو مشعل عاد مؤخرا من بعد زيارة طويلة لأحد أبنائه والذي يعمل هناك .. لكن معنا ته تضاعفت في السنوات الأخيرة من التهاب مزمن في ركبتيه , حاول أبنائه أن يجري عملية لاستبدال ركبتيه مثل الآخرين الذين كانوا يعانون من نفس المشكلة والمتاعب لكنه رفض .. لا يتصور أبدا أن يحمل في جسده قطعا صناعية .. وكان يردد دائما ولدت بهذه الصورة وسوف أودع الحياة بهذه الصورة
ودع صاحبه متمنيا له الشفاء والعافية وعاد الى بيته وهو يسير بخطى وئيدة والسعادة تغمره فهو والحمد لله افضل من صاحبه أنه يستطيع السير على قدميه على الرغم من بعض الألام البسيطة وأدرك لحظتها كم هي رائعة الحياة والإنسان بكامل صحته وعافيته ..!! كان الوقت يمضي هادئا وهو يتابع أخبار التلفزيون . وكان أبنه عبد الوهاب والذي يعمل في الرياض قد أتصل بأحد مطاعم التوصيل السريع طالبا عشاء منوع .. رحمة بشقيقته فهي قد تعبت معهم في جولة العقير .!
ليه ..؟
أجابها وهو ينظر الى التلفزيون
– علشان ترتاحين . يكفي تعب الرحلة
تحركت سريعا وتوجهت الى المطبخ لإعداد طعام والدها ..وهي تشعر بامتنان كبير لمشاعر شقيقها عبدالوهاب .! كانت تعد الطعام وهي حائرة لاتدري بماذا تجيب والدها وماهي فاعلة هل توافق على أبوناصر .. هل تترك هذا البيت الذي قضت فيه أجمل سني عمرها قبل زواجها من المرحوم وسنوات ما بعده ؟
هنا عاشت بجوار والدها الطيب الحنون .. المثقف .. خريج جامعة ارامكو كما أجاب مرة على سؤال أبنها .. وبين أحضانه شعرت بالدفء والحنان .. وهنا كبر أولادها الصغار بعد وفاة والدهم .. سرحت ببصرها تتأمل من نافذة المطبخ حديقة البيت الصغيرة شجرة نخيل الخلاص التي يعشقها والدها وشجيرات الورد والريحان .. كل شيء في هذا البيت القابع في هذا الحي
يذكرها باللحظات الحلوة التي مازالت تعيشها لحظة بلحظة مع والدها وأشقائها وولديها .. هل تترك هذا كله وتتبع غريزتها الإنسانية وتقبل بزوج جديد .. أنها شابة وهذا يعني أنها سوف تحمل وتلد من جديد .. يعني سوف تجلب أشقاء أو شقيقات جدد لولديها ماذا سيكون شعورهما في المستقبل .. وهل سوف يعاملهما زوجها الجديد معاملة واحدة بدون تفرقة أو إيثار.. أنها في حيرة حقيقية تتنازعها مع مجموعة من المشاعر المختلفة . هكذا كانت تفكر وهي تتطلع من نافذة المطبخ .. وما لبثت أن طردت هذا التفكير وقصدت الصالة الرئيسة بالبيت حيث يجلس والدها وشقيقها وطلبت من الشغالة أن تجهز الطعام بعد وصول الطعام الخارجي .. ؟!
بعد ان تناول الجميع طعام العشاء .. تحلق الجميع حول جدهم عدا الابن الأكبر فواز فكان في مهمة عمل خاصة .. فقال الجد بحكم مرورنا اليوم على مدينة العيون عند عودتنا من العقير
يجد ر بنا أن نتحدث قليلا عن هذه المدينة والتي
هذا هو قصر إبراهيم المركز الرئيسي لإدارة الحكم في شبكة الدفاع بالإحساء في الماضي حيث كانت تقيم فيه حامية عسكرية بصفه دائمة وكانت أيضا بمثابة المقر الإداري الرئيسي للسلطة .
ويرجع تاريخ بناء هذا القصر الذي تبلغ مساحته 18200 م2 من الخارج و 10.000 م 2 من الداخل فيرجع الى عهد الجبريين الذين حكموا الإحساء خلال الفترة من 840 الى عام 941 هـ
توقفت سيارتهم بجوار قصر إبراهيم التاريخي بالهفوف وهو يبدو شامخا بقبته الكبيرة البيضاء وقبابه الصغيرة وأسواره العالية. ظل الحفيد يلتقط عدة صور من مختلف الزوايا بكاميرا زوجة خاله فهي ووالدته لم تستطيعا الحضور في جولة هذا اليوم فهما سبق وان شاهدا الأسواق الشعبية والمدينة أكثر من مره ..
. قد شهد هذا القصر حدث تاريخا هاما وخالدا إذ استطاع المغفور له الملك عبد العزيز السيطرة على هذا القصر وما فيه من جنود وعتاد من أول يوم استرجع فيه الإحساء من قبضة العثمانيين وذلك في ليلة الاثنين 28/5/1321هـ وبذالك أصبح هذه القصر شاهد أثبات ونقطة تحول ما بين فترتين زمنيتين متباينتين هما الحكم العثماني فيه والحكم السعودي الذي ساد فيه العدل والأمان في ربوع الإحساء وغيرها .. بعد ها طلب الجد من أبنه أن يتجه الى شارع القيصرية ليحدث حفيده عن سوق القيصرية ويشاهد السوق وهم يعيدون بنائه من جديد بعدما تعرض للحريق وانهياره بعد ذلك وراح الجد يتحدث عن القيصرية وكأنه يسمع أصواتا من ما الماضي حيث ضجيج السوق وصراخ الباعة والمنادين على بضائعهم , أصواتا قوية وأخرى ضعيفة ومبتورة هل تعرف
يا بني أن هذا المكان كان يشكل فيما مضى من زمن عصب الحياة الاقتصادية والتجارية والاجتماعية لأبناء المنطقة والخليج
وهو يختزل كل الأبعاد التاريخية والحياتية للإحساء وهو يحتل مكانة أساسية في الموروث الشعبي التاريخي للمنطقة وفي طرقه وبين أروقته عقدت ملايين الصفقات التجارية عبر السنين .. وفيه بيعت مختلف البضائع والمنتوجات المحلية والصناعات التقليدية المختلفة المنتجة محليا او التي تم أستيرادها من الخارج ..ويمثل السوق أهمية خاصة لكل مواطن في الإحساء لارتباطه بتاريخ المدينة او لذكريات الماضي ..
كان يقول ذلك وهم في طريقهم الى سوق الخميس .. أقدم سوق شعبي في منطقة الخليج والذي تحدث عنه كل الرحالة والمؤرخون ..ترتعش في مقلتيه الطافحتين بالأمل والطموح سعادة لا حدود لها تكاد تقفز من حدود النظر وهو يشاهد هذا العالم الواسع المثير والمدهش .. الضجيج .. الحركة .. الناس .. سجل بكاميرته الصغيرة صورا شتى من مختلف أنحاء السوق أمتدت يد امرأة منقبة الى رأسه فخلعت طاقيته وقالت له عساك ما أخذت لي صوره .. تطلع أليها في دهشة وخوف .. وقال :لا يا حجية ماصورتك .. أنا بس أخذت صور للسوق ؟ فقالت له وهي مازالت ممسكة بطاقيته : بس انا في السوق .! جبينه يعرق .أحس بأن الدنيا تدور به .. تلفت خائفا وين خالي .؟ أعادت له طاقيته وهي تقول له . مرة ثانية لا تصور الحريم يا أبن (… ) سامحيني قالها وهو يحسن من وضع طاقيته .. ويركض عائدا الى حيث اوقف خاله السيارة وجده بداخلها .. شعر بأنه لا يركض وإنما يطير ويده الصغيرة ممسكة بقوة بالكاميرا .. بسرعة دخل الى السيارة ..ازدرد ريقه ..! التفت أليه جده وقال له : خير أنت خايف ليه .؟ تعال هنا جنبي .. أنت خا يف علشان خالك أبتعد عنك ؟؟ ثم ضحك الجد عندما أخبره عن المرأة والصورة .. على كل حال الحمد لله .. ما كسرت كاميرتك
مثل ماحدث للعديد من هواة التصوير.. وهذا ناتج عن قلة وعي وفهم لأهمية التصوير .. تصدق يا ولدي ان الدول التي حظيت بتصوير طبيعتها وتسجيل مدنها وما فيها من أثار وأسواق ومعالم
تعتبر دول محظوظة لانها تمتلك الآن تاريخ موثق ومنذ بدأ الناس يمارسون هذه الهواية الرائعة , والإحساء تعتبر من المناطق الاكثر حظا في هذا المجال حيث قام العديد من الرحالة الذين توافدوا عليها بتصوير جمالياتها وتخليدها في مئات الصور كما فعل مصورو شركة ألارامكو الأوائل الذين التقطوا صور جميلة عن الإحساء قبل ثمانية عقود تقريبا وبالمناسبة سوق الخميس كان محظوظا جدا في مجال تصويره فهناك عشرات الصور التي التقطت عن السوق وعلى الأخص عندما كان داخل أسوار المدينة في الماضي وبجوار القيصرية ..
كان يستمع لحديث جده وهو يحملق في عينيه . ويشعر بكثير من الراحة بعدما التقط أنفاسه الوجلة
ها قد أصبحت الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا .. وهاهو خاله عبدالوهاب عائدا من السوق حاملا في يديه بعض المنتوجات الخوصية التقليدية والتي تبدعها في الغالب المرأة في مختلف قرى الإحساء .. منتوجات يدوية قمة في البساطة والجمال..
قال له والده معاتبا : يالك من رجل .. ؟! كدت تتسبب في وقوع أبن شقيقتك في مشكلة خلال تصويره لمشاهد من السوق .. وراح يخبره عن حكاية المرأة والتصوير ..
قبل أن يدير محرك السيارة التفت لوالده معتذرا ,أنه قصد أن يتركه يتجول في السوق حتى يعتمد على نفسه بعدما أطمئن عليه أنه يعرف مكان وقوف السيارة .. بل أخبره في حال وجود أي مشكلة ما , أن يتصل به من خلال الجوال.. أستغرق خروجهم من السوق وقتا فلقد كان مكتظا بالسيارات والمركبات وحتى العربات الشعبية التي اشتهرت بها المنطقة منذ القدم .. والله فوضى .. قالها الابن .. ؟ علق والده وهو يستبدل نظارته بنظارة شمسية .. كيف لو شاهدت السوق القديم .. الان يعتبر هذا الموقع موقع حديث .. فأجابه الابن : بصراحة وضع السوق يجلب الهم لا المتعة .. لامواقف مناسبة ولا تنظيم يرقى للعصر .. الواحد يأت للتسوق والاستمتاع بمشاهدة طبيعة السوق التراثية لكنه يصاب بالاكتئاب الى متى لا نحسن اختيار المكان المناسب لأسواقنا .. مضى وقت طويل والسيارة محشورة بين عشرات السيارات ورغم الجهد الذي يبذله جندي المرور الا أن الزحمة مازالت مستمرة .. كانت الفوضى تعم الطريق واعداد السيارات الكثيرة تضاعف من حجم الفوضى ومشكلة الاختناق ..يؤسفني حدوث ذلك في مدينتنا الجميلة .. مدينة النفط ..؟!
وأخيرا ربك سهلها قالها الابن بعدما أستطاع أن ينفذ بطريقة بهلوانية من بين كتل السيارات سالكا طريقا جانبيا في ارض غير مستوية .. بالله عليكم كيف تكون فكرة الزائر لاسواقنا وهو يشاهدها بهذه الصورة .؟ الم يحن الوقت لنرتقي بخدماتنا ونحقق
الافضل ..؟!
لقد حان وقت صلاة الظهر دعنا نصلي في أقرب مسجد لعين نجم قالها الجد وأضاف : حتى نتيح الفرصة لابن شقيقتك يشاهد عين نجم قبل عودتنا الى البيت .!
اللي تشوفه طال عمرك .؟ أبتسم الجد وقال وهو يشير الى المبنى التاريخي للعين بقبابه البيضاء وهما مازالا داخل السيارة :
كان لهذه العين شرف تواجد المؤسس طيب الله ثراه الملك عبد العزيز في ربوعها عدة أيام للاستشفاء: لقد ذكر( المهندس خالد المغلوث) في كتابه عن عين نجم الكثير من الجوانب التاريخية المتعلقة بما سجله التاريخ عن هذه العين والتي سميت بعين نجم نسبة الى موقع سقوط نيزك كما هو شائع عند الأهالي وكما يذكر ذلك عبد الله فلبي ويضيف المهندس خالد لايمكن الاطمئنان لهذه التسمية لافتقارها الى نصوص موثقة وثابتة النسبة والجزم حيث أن هناك أماكن أخرى في الإحساء تسمى نجم مثل منطقة نجم ود روازة نجم بالمبرز لذلك ربما تعود الى أسم الشخص الذي حفرها في القرن الحادي عشر وأسمه نجم حيث يرجع بعض الأهالي أن هذا الرجل الذي هو اسمه نجم بن عبيد الله بن غرير بن عثمان الخالدي .. وكل التعليلات في تسمية هذه العين بعين نجم جائزة ومقبولة فماؤها يجري بصفاء شديد الحرارة وكبريتي حتى لا يمكن الغوص في أعماقها لشدة حررته .. ويضيف الجد :
يذكر ان ماء عين نجم كان غزيرا ووفيرا في السابق وكانت تسقى بساتين العين ونحيل مناطق اخرى مجاورة وقد ذكر أمين الريحاني في كتابه تاريخ نجد عن عين نجم واصفا ماؤها حيث يقول ( وفي الحساء قرب الهفوف عيون معدنية متنوعة ماؤها حار بارد أهمها عين نجم قرب المبرز التي يتغنى الشعراء بمائها العجيب مائها المعد ني الحار..
وما أشار اليه المهندس المغلوث في كتابه عن عين نجم قوله : انه في عام 1308هـ نزل الإمام عبد الرحمن الفيصل ال سعود رحمه الله في عين نجم عندما جاء الى الإحساء وكان من الذين رافقوه أبنه الملك عبد العزيز والذي كان عمره حينئذ في الثانية عشره وفي عام 1331هـ وقبيل فتح الإحساء وصل الملك عبد العزيز الى عين نجم وأناخ ركابه مع أخوانه وأبناء عمومته من ال سعود وأقاموا فيها وأخذ رحمه الله يرتب الأمور ويجهز قوته للهجوم على العثمانيين استعدادا لفتح الإحساء ..
وفي عام 1365 يأمر الملك عبد العزيز حين زيارته للإحساء بأعمار عين نجم وإدخال بعض الإصلاحات الأساسية لمرافق العين ..
التقط الحفيد أكثر من صورة لمبنى العين .. وبساتين النخيل التابعة لها .. كانت حرارة الشمس قوية جدا لدرجة اكتفاؤه بالتصوير من داخل السيارة
في البيت راح الحفيد يحكي لوالدته ولزوجة خاله ما شاهده في جولة اليوم الصباحية من مشاهد .. قصر إبراهيم ..المدرسة الاولى.. مشروع سوق القيصرية سوق الخميس .. وعين نجم .. وراح يستعرض صوره من خلال جهاز الكمبيوتر الشخصي بعدما نقلها اليه من الكاميرا ..ولم ينسى أن يحكي لهم حكايته مع المرأة وسط ضحكاتهم ..
عاد الجد الى غرفته . وتمدد على سريره .. وبجواره عشرات الكتب عن منطقته .. انه يشعر فعلا بالتعب فيبدو أن السنين قد أوهنت جسده فعلى الرغم من كونه لم يخرج من السيارة الا لصلاة الظهر في مسجد المستشفى المجاور لعين نجم .. فهو يشعر بأن جسده مهدود وبحاجة ماسة لينام قليلا .. وليست له نفس في تناول طعام الغداء ..
وقبل أن تسأله أبنته عن إ عداد سفرة الطعام .. اخبرها أنه لا يريد الأكل الآن , فقط يريد أن يرتاح .. طلب منها فقط كوب من اللبن حتى يتناول دواء السكر ..!
منذ سبعة عقود كان في العاشرة من عمره . رافق والده لسوق القيصرية لشراء ثياب العيد .. يذكر جيدا أنه صعد خلف والده على حمار تهم البيضاء التي نقلتهم عبر طريق عين الزواوي الزراعي المترب بريق أشعة الشمس مابين سعف النخيل يجرح عينيه , وحرارتها تلسعه في ظهره .. وقطرات العرق تنساب من تحت أبطيه .. ووقع أقدام الحماره في أذنيه تطن وهي تسير على الطريق الجافة .. ما أروع المشهد في هذا الطريق الجميل , عندما تتعانق أغصان الأشجار و قمم سعف النخيل في حب محدثة معزوفة موسيقية تدفع بالعصافير المسترخية على الأغصان والسعف الى الهروب .. هذه صورة تعاوده بين فترة وأخرى منذ الصغر وبعد أن أصبح جدا للعديد من الأبناء والبنات والأحفاد وفي كل مرة عندما يترد على الهفوف ويشاهد القيصرية يتذكرها .. بل أنه يكاد ينتفض مثل تلك العصافير لحظة هروبها.. ولكن لماذا واتته صورة الماضي اليوم هل لأنه شاهد المبنى الجديد للقيصرية .. ام أنه شاهد من بعيد ذلك الطريق الزراعي الذي اختفى خلف المباني والعمران ..؟!!
هكذا تسأل بينه وبين نفسه قبل أن يستسلم لغفوة طويلة أمتد ت حتى صلاة العصر .؟!
كانت أسرته تتناول طعام العشاء بشهية مفتوحة وهم يتابعون احد البرامج التلفزيونية. الإعلامية وكان البرنامج يتحدث عن دور الإعلان في مجال التسويق والتعريف.بنشاطات الشركات والمؤسسات وكيف اهتمت كبرى الشركات والمؤسسات في العالم بهذا النشاط .. وراح الابن الأكبر والذي يمتلك وكالة إعلامية يشيد بالبرنامج بل أنه طالب زوجته أن تقوم بسرعة بتسجيل الحلقة لأهميتها له ولعمله .. وتمنى لحظتها لوكان البرنامج مباشر لعمل مداخلة وطرح بعض التساؤلات عن بدايات الإعلان في المملكة والخليج .. لكن الحلقة للاسف كانت معادة .. فقال والده : قد لا تصدق يا ولدي لو قلت : أن شركتنا العملاقة ارامكو كانت من أوائل الشركات في الشرق الاوسط التي اهتمت ومنذ بداياتها بالإعلان وأهميته بل خصصت ميزانية كبرى لمجالات الإعلام والإعلان .. ولدي في مكتبتي احد الأعداد القديمة لمجلة المختار العالمية النسخة العربية وفيها إعلان ملون عن البترول .. والأجمل أن صورة الإعلان الرئيسة عبارة عن لقطة ملونة لأحدى عيون المياه بالإحساء وتاريخ العدد عام 1956م .. وهذا يعني أن عمر الاعلان 52سنه ..!! تعروهم جميعا قشعريرة من الدهشة .. بل أن الابن راح يتطلع عميقا في وجه والده .. ولأول مرة لاحظ الشيب في فوده بصورة واضحة .. بدأ الابن يشعر بالأسى حيال والده .. لزحف التجاعيد على وجهه بصورة واضحة .. والشيب الذي غزا فوده من زمن .. وهو رغم ذلك مازال يعتبر رجلا وسيما وجذابا رغم سيره الحثيث في عقده الثامن .!
التفت نحوه ,ابتسم قائلا : بدون مجاملة أشعر بالفخر والاعتزاز بك يا والدي كونك تحتفظ بهذا الكم الهائل من الذكريات والمعلومات شبه الموسوعية . كيف استطعت تحقيق ذلك .. ؟
رمقه والده بنظرة حنونة وقال : أنها هواية القراءة .. هواية تعودت عليها منذ كنت عاملا بسيطا في الشركة .. وهذه الهواية عندما تخلص لها تخلص لك , تفيدك كثيرا في عملك في حياتك . تشعر عندما تكون في مجتمع ما أنك قادر على الحوار والمناقشة .. ومكتسبا تك منها سوف تنعكس بالتالي عليك .. أنت لا تتصور يا ولدى كم أفادتني القراءة كثيرا خلال سنوات عمري .. بل ولا أخفي عليك أنها ساعدتني على تجاوز لحظات الاكتئاب التي داهمتني قبل سنوات بعدما انتقلت والدتك الى رحمة الله , بصدق شعرت بالوحدة .. لكن القراءة تدفعتني دفعا الى تجاوز هذه الحالة .. كذلك انها ساهمت في محافظتي على ذاكرتي .. فالذاكرة يا ولدي بحاجة دائما الى شيء ما يبعث فيها النشاط والحيوية خصوصا لمن هم في سني ..؟
وليس هناك أفضل تمرينا وتدريبا من القراءة ومتعتها الغير محدودة .. وإذا كان هناك نصيحة يجب أن يقولها جدا لأولاده وأحفاده : هي أن يهتم الجميع بالقراءة .. ومن خلالها سوف تكتسبون أشياء كثيرة مع مرور
ألا يام أصغى الجميع باهتمام الى جدهم .. ! قالت ابنة شقيقه عمي متى تحدثنا عن النفط وحكايته في المنطقة بل المملكة ككل .؟
قام من مقعده .. ومشى في الصالة .. وبقى الجميع في جلستهم تلك وقد تقاربت أجسامهم في ظل أنوار الصالة المشرقة .. وكأن حكايات جدهم الشيقة عن منطقتهم وتاريخها قد وحدهم وفعل فعله فيهم ..
عاد الجد الى مقعده .. وندت منه كلمات استفسار قائلا :
أدار نظره في الصالة ثم قال : النفط هو دم حضارتنا وحياتنا وبدونه تتوقف جوانب عديدة من الحياة انظروا الى ما حولكم في هذه الصالة سوف تجدون العشرات من منتجات النفط المختلفة . بل كل الاشياء الموجودة في بيوتنا ومدننا جميعها منتجة من النفط ( البترول ) هناك مئات الالاف من المنتجات التي هي وليدة هذا السائل الاسود وسوف اذكر لكم ما في ذاكرتي من بعض المنتجات : أفلام . أسفنج صناعي . مبيدات الحشرات ..النبا لم .طلاء الاظافر .مواد التجميل . أغطية الطاولات . الشمع . الأسمدة الكيماوية . فرش الأسنان . زجاج الطائرات . المطاط الصناعي . . النايلون . الدكرون . الا رلون . خراطيم المياه .. أشياء كثيرة جدا هي وليدة هذا السائل الذي تنتجه أرضنا الطيبة .. أرضنا المباركة ..والتي باركها الله بوجود المقدسات فيها بل وبيته العتيق .. واجدها فرصة أن ادعوكم غدا الى زيارة معرض الزيت بالظهران حيث تشاهدون بالكلمة والصورة حكاية النفط بصورة منهجية وطوال الطريق سوف أحدثكم عن النفط من خلال ما يتوفر لدي من معلومات اتفقنا .. .!
تركت هذه الدعوة لزيارة معرض الزيت في نفوسهم شعورا كبيرا بالغبطة والسعادة وعلى الأخص أحفاده الصغار فراحوا يرددون في سعادة . بكره نروح الظهران .. بكره نروح الظهران ..
كان الطقس جميلا معتدلا وأشعة لشمس تملا الجو والطريق خالية من السيارات فلقد أصر الجد أن تكون الرحلة الى الظهران مبكرا فهو لا يحب زحام السيارات .. فطريق الإحساء الظهران يشهد حركة نشطة غير عادية من قبل المركبات والسيارات .. كان الجد يتحدث وهم يستمعون اليه والابتسامة الحلوة تملاء وجهه وبدأ ابنه ( عبدالوهاب ) وهو يقود السيارة كطفل صغير علقت لسانه الدهشة ..
بدأت قصة اكتشاف الزيت في المملكة في أعقاب الحرب العالمية الأولى .
كانت جماعة من الممولين الانجليز قد الفت نقابة هدفها السعي وراء الحصول على حقوق للتنقيب عن البترول ومن بيعها لإحدى شركات الزيت جريا وراء الربح . وفي منتصف عام 1922 كلفت هذه النقابة ممثلها في البحرين (الميجر فرانك هولمز) النيوزيلندي بمحاولة الاتصال بجلالة الملك عبد العزيز , فراح يقطع الصحراء حتى وصل إلى( قلعة الرياض ) عاصمة ابن سعود وأجرى معه محادثات تمهيدية . وفي نوفمبر من العام نفسه لحق بالملك إلى ( العقير ) بالإحساء حيث كان الملك عبد العزيز يعقد مؤتمرا مع ( السير بيرسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في العراق آنذاك ونجح رغم معارضة كوكس في الحصول على امتياز للتنقيب عن الزيت في رقعة تزيد عن مساحتها عن 60000 ميل مربع في مقاطعة الإحساء . إلا ان هذه النقابة لم تجد من يستثمر حقوقها نظراً للصعاب التي واجهتها , ومنها عدم توفر طرق المواصلات , ومراكز التموين , والعمال المهرة ولم تمض بضعة سنوات حتى تخلفت عن الأجرة السنوية للمملكة فسحب منها الامتياز وبذلك خسرت أعظم احتياطي للزيت في العالم كله . في شهر نوفمبر من العام 1932 تقدمت شركة (استاندر اوف كاليفورنيا) socal صاحبة الامتياز في البحرين , إلى الملك عبد العزيز باقتراح طلبت في السماح لجيولوجيها بالقيام بأعمال المسح التمهيدي في منطقة الإحساء .
كما أشرت أيضا في دخولها في مفاوضات مع حكومة حضرة صاحب الجلالة للحصول على امتياز , إذا وجد الجيولوجيون أحوالا مشجعة تبرر مضيهم قدما في أعمال التنقيب ولكن الحكومة السعودية آثرت مناقشة اتفاقية الامتياز قبل البدء بأي عمل جيولوجي .
بعد ذلك توجه (لويد هاميلتون) ممثلاً عن شركة ستاندر (كاليفورنيا ) إلى جده وبدأت المفاوضات في أواسط شهر فبراير عام 1933 وكان يصحب هاملتون في رحلته (كارل توتشل) والذي سبق له العمل في البحث عن مصادر الماء والمعادن في جزيرة العرب وقد كان له فيما بعد فضل في انجاز أعمال مناجم الذهب التابعة لنقابة التعدين العربية السعودية في مهد الذهب بالحجاز . ودارت المفاوضات في أحلك فترة أعقبت التدهور الاقتصادي العالمي في عام 1922 .
استمرت المفاوضات بين الجانبين ثلاثة أشهر ونصف الشهر . واشترك فيها عن المملكة المرحوم الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية آنذاك . والشيخ يوسف ياسين السكرتير الخاص للملك عبد العزيز آل سعود وفؤاد حمزة وكيل وزارة الخارجية , وفي هذه الأثناء والمفاوضات دائرة بين الطرفين قدم جلالة الملك عبد العزيز وتم أول لقاء بين جلالته وبين هاملتون .
وقد كان لذلك اللقاء الأثر الأكبر في الوصول لاتفاقية تدفع بموجبها شركة استاندر (كاليفورنيا) لحكومة المملكة الدفعة الأولى من أجرة الامتياز قرضاً بالجنيهات الذهبية في وقت أعلنت فيه الولايات المتحدة حظر تصدير الذهب. وقد تم توقيع اتفاقية الامتياز في جده في 29 مايو 1933 وقام بتوقيعها عن الحكومة العربية السعودية المرحوم الشيخ عبد الله السليمان وعن شركة استاندر (كاليفورنيا) للزيت (لويد هاملتون) ممثلها وأصبحت الاتفاقية سارية المفعول ابتداء من 14 يوليو من ذلك العام.
بعد توقيع اتفاقية الامتياز التي تغطي رقعة بلغت مساحتها 495900 ميل مربع . أبحرت الطليعة الأولى من الجيلوجيين المؤلفة من (ر.ب. ميللر) و (س.ب. هنري) وقد انضم إليها (كارل س تويتشل) ليساعدهما في بدء عمليات التنقيب , وقد قطع الجزيرة من جدة إلى الساحل الشرقي بسيارتين لاستعمالهما في أعمال التنقيب , ورسا القارب في قرية (الجبيل) على ساحل الخليج العربي حيث اتخذ الفريق منها قاعدة لمباشرة أعماله , وبدا الجيولوجيون يرشدهم الادلاء السعوديون.
أعمال التنقيب الأولى في المنطقة الكثيرة التلال والمسماة ( جبل الظهران) وهي التي كانوا قد رأوها من البحرين , هنا وجد الجيولوجيون دلائل على وجود قبة جيولوجية من النوع الذي يتجمع فيه الزيت , دعيت (قبة الدمام) . قام الجيولوجيون وقد زاد عددهم بأعمال المسح والاستكشاف في مناطق أخرى من واحة الإحساء حيث اتخذوا من الهفوف قاعدة ثانية لنشاطهم .
انتهى الجيولوجيون من التخطيط الاستطلاعي ورسم الخرائط ودراسة التركيب الطبقي للأرض وقد استخدموا طائرة من نوع (فيرتشايلد ) مكنتهم من القيام بأعمال المراقبة والتصوير الجوي , وبحلول ربيع عام 1935 كانوا قد وجدوا من الدلائل ما دعاهم إلى الاعتقاد بوجود تكوينات أرضية مشجعة .
الحفر التجريبي يبدأ
استقر رأي الجيولوجيين أخيرا على إجراء الاختبار الأول في قبة الدمام وكانوا ينظرون إلى إمكانات العثور على زيت في ذلك المكان نظرة ثقة , خاصة وان تركيبها الأرضي يشبه التركيب الأرضي للبحرين . فاستقدمت الشركة الفريق الأول من الحفارين للشروع في الحفر .
وفي تلك الأيام لم تتمكن بلدتا الخبر والدمام من تقديم أحياء للسكن أو مخازن يمكن الحصول منها على الأطعمة أو الحاجات الضرورية الأخرى .لذا بات من الضروري إنشاء مخيم للسكن وميناء لإنزال أجهزة الحفر ومعداتها والأطعمة وغير ذلك . فكان ان بدا العمل في إنشاء أول مخيم في الظهران بجانب موقع بئر رقم 1 .ووقع اختيار على الخبر كميناء لإنزال الشحنات الواردة عن طريق البحرين , فأنشئ فيها رصيف صخري ومهدت الطريق بينها وبين موقع المخيم في الظهران .
بدا الحفر التجريبي لبئر الدمام رقم1 في 30 ابريل عام 1935 وقد عثر على تباشير طيبة للزيت على مستوى يعلو الطبقة المنتجة في البحرين بـ 1900 قدم . إلا ان تلك التباشير لم تثبت وجود الزيت بكميات وافرة , فاستؤنف الحفر في تلك البئر إلى عمق 3200 قدم دون جدوى . كما حفرت بعد ذلك تسعة آبار أخرى بلغ عمقها حتى طبقة البحرين وعثر فيها على بعض الغاز ولكن لم يعثر على الزيت في أي منها .
وهنا قرر المهندسون تعميق بئر الدمام رقم 7 حتى وصل إلى عمق 4727 قدما عندما تدفقا للزيت بكميات كبيرة من (الطبقة العربية) . وقد أكملت هذه البئر في شهر مارس 1938 . وكانت هذه نقطة التحول في تاريخ المملكة العربية السعودية وإيذانا ببدء صناعة جبارة فيها , هي صناعة الزيت . تبع العثور على الزيت مباشرة إنشاء خزانات التجميع ومرافق نقل الزيت , كما مد خط أنابيب قطره ست بوصات إلى بلدة الخبر التي أنشئت فيها فرضة للتخزين والشحن . وقد نقلت أول شحنة من الزيت بمركب من تلك الفرضة إلى البحرين في شهر سبتمبر عام 1938 وبلغ معدل الإنتاج اليومي في نهاية ذلك العام ما يقرب من 1350 برميلاً .
التنقيب و الإنتاج
عقب اكتشاف الزيت مباشرة قامت الشركة بمد خط أنابيب قطره عشرة بوصات إلى رأس تنوره التي وقع عليها الاختيار لإنشاء المرافق الصناعية ومرافق للشحن البحري فيها .
وكانت الناقلة (سكوفيلد) أول ناقلة تؤم فرضة رأس تنوره حيث نقلت أول شحنة من زيت المملكة إلى الأسواق العالمية في أول مايو عام 1939 .
وفي عام 1940 أنشئ في رأس تنوره معمل صغير لتكرير الزيت طاقته 3000 برميل في اليوم , أما أعمال التنقيب الجيولوجي فقد استمرت باطراد في مناطق مختلفة , وتم اكتشاف حقول أخرى للزيت دعت إلى التوسع في الإنشاء , إلى نشوب الحرب العالمية الثانية , وما سببته من عرقلة نظام النقل أدت إلى توقف أكثر الأعمال , وبالتالي إلى تخفيض عدد الموظفين ,ومع ذلك فقد استمر إنتاج الزيت وشحنه إلى معمل التكرير في البحرين . وأضاف الجد :
ما ان وضعت الحرب العالمية أوزارها حتى بدأت حمى النشاط من جديد وقد شملت جميع الميادين , فتم في عام 1945 إنشاء معمل جديد للتكرير في رأس تنوره , بدلا من المعمل القديم تبلغ طاقته 50.000 برميل في اليوم . وتبع ذلك إنشاء خزانات جديدة للزيوت وخطوط للتحميل ورصيف بحري لرسو ناقلات الزيت .وفي العام نفسه أكمل مد أول خط أنابيب الماء إلى البحرين قطره 12 بوصة .وكان لاكتشاف حقل (بقيق) اثر كبير في برنامج التوسع , أصبحت معه بقيق مركزا لعمليات الإنتاج . ثم تتابع اكتشاف الحقول إلى ان أصبح عددها في نهاية عام 1969 ثمانية عشرة حقلا وهي: بقيق, والغوار, وخريص, و شيبة , والدمام, والقطيف ,و البري, والفاضلي, وجريبيعات, والخرسانية , وأبو حدرية , وابوسعفة, ومنيفة, و السفانية , والظلوف, ومرجان, وكران, و جنا , ومن الجدير بالذكر ان حقل (الغوار) هو اكبر حقول الزيت على اليابسة في العالم من حيث المساحة وثانيها من حيث الاحتياطي والإنتاج .
ويعتبر حقل (السفانية) المغمور بمياه الخليج العربي اكبر حقل زيت مغمور في العالم . لقد رافق اكتشاف تلك الحقول وارتفاع الطاقة الإنتاجية تدريجيا إقامة شبكة من خطوط الأنابيب بلغ مجموع طولها 3241 كيلومتراً , كان أحدثها خط أنابيب بقيق القطيف رقم (5) الذي يبلغ طوله 50 كيلومترا ويتراوح قطره بين 40 إلى 42 بوصة وهو اكبر مشروع من نوعه نفذته ارامكو في عام 1969 .
وقال الجد وهو يداعب شعيرات شاربه بأنامله المعروقة : كتب الصحفي والكاتب الامريكي ( والاس ستنينغر ) في كتابه ” الاكتشاف ” يقول : مد الملك عبد العزيز ال سعود بدون تردد يده القوية التي أسس بها المملكة وحافظ عليها متماسكة وفتح محبس خط الانابيب التي سوف تتدفق عبرها الثروة والسلطة ومسؤولية صناعاعات القرن العشرين وكان ذلك في الاول من شهر ايار عام 1939م لم يكن بين الحضور أي ممثل للولايات المتحدة الامريكية ولوحتى أحد المراقبين ففي ذلك الوقت لم تكن الولايات
المتحدة قد أرسلت لها ممثلا رسميا الى المملكة العربية السعودية ويضيف قائلا: وبهذا بدأت حقبة النفط الجديدة: تلك البلاد التي تعرف اليوم بأنها تملك أهم الاحتياطيات النفطية في العالم كانت في المتناول مثلما يقول أهل النفط .ادرك الامريكيون منذ ذلك الوقت أهمية السعودية ولكن الحرب العالمية الثانية ادت الى توقف غالبية الأنشطة النفطية في المنطقة وتم إغلاق المنشآت النفطية حتى لاتقع في أيدي المانيا.. ولكن قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وفي 14شباط 1945,أي بعد بضعة ايام من انتهاء مؤتمر مالطه أستقبل رئيس الولايات المتحدة الامريكية فرانكلين روزفلت الملك عبد العزيز آل سعود على متن الطراد الامريكي(uss quincy ) فوق البحيرات المرة في قناة السويس ..
كانت الأسرة تجلس الى المائدة في احد المطاعم الراقية بالخبر يتناول افرادها طعام الغداء بعد جولة طويلة وشيقة في مختلف أقسام معرض الزيت با الظهران عندما سأل الحفيد الجد .. مارايك يا جدي في أكل هذا المطعم ..؟!
قال الجد ذلك وصور ذكريات الماضي تتداعى أمامه مسرعة هاهو يستيقظ مبكرا فيتوضأ ويصلي ويتناول ما يتيسر له من فطور بسيط ليتجه بعد ذلك لعمله في مرافق الشركة بعد أن يسمع ( الصيتى ) جرس بدء العمل
مضت سنوات عليه وهو يعمل ويتعلم ويتدرب لقد كبر وكبرمثله العمل في الشركة التي تطورت كثيرا .. حتى انه يذكر جيدا اليوم الذي ابلغه فيه رئيسه الامريكي مستر ( جفري ) أنه سوف يكون من ضمن المجموعة التي سوف تغادر للدراسة في أمريكا .. كانت لحظات سعيدة لاتنسى ابدا
لقد كاد يطير من الفرح لحظتها .. ويذكر جيدا أنه أقام حفلة لابأس بها لزملائه الموظفين في سكنه ( باللين ) لقد تعاون معه زملاء السكن في تحضير وليمة الحفلة التى سجلتها كاميرات الاصدقاء ..
أنتزع الجد نفسه من صور وذكريات الماضي الجميل .. الماضي المشبع بالتعب والجد والدراسة والطموح .. جامع الظهران .. الكنب .. الانترمديت .. السوق .. وفرضة الخبر وشارع الامير خالد في بداياته .. الكانتين .. السينما المكشوفه .. أفلام الكاوبوي ..والبنطلونات الكاكية ومكتبة الشركة .. معشوقته المفضلة ..هذه الصور والذكريات تسعده ويحفز شغفها للتذكر .. لكن الان هو مع أولاده وأحفاده ليس المجال الآن ليعيش مع الماضي .. حاصرته نظرات أفراد أسرته .. رغبة بالبكاء الفرح .. نعم أنه يريد أن يبكي لسعادته .. يريد أن يريهم جميعا دموع فرحه بهم وبوجوده معهم وما وصلت اليه بلاده العزيزة من تقدم وتطور كبيرين ..
خصوصا بعدما تجول في معرض الشركة .. وأثارت فيه المشاهد ما أثارت من شجون وشئون ..
فجأة قام الجد واتجه مسرعا الى غرفة الغسيل .. محفوفا بنظرات أفراد أسرته كان يغطي وجهه بغترته كأنه يخفي شيئا .. عندما أصبح داخل الغرفة راح يمسح حبات دموعه عن وجهه بالماء .. سحب مناديل ورقية ورح يجفف بها وجهه الذي كان يحمل علامات الفرح المفرطة .. لم يحب أن يرى أحفاده الصغار دموع فرحه بوجوده معهم .. فربما اختلط عليهم ذلك وتصوروا شيئا آخر .. لو كان الكبار فقط ماهمه مشاهدتهم لدموعه فهم يعلمون حقيقة مشاعره وحسه وحتى رقة مشاعره .. فكثيرا ما تبكيه مشاهد إنسانية عابرة في الطريق او في التلفزيون او حتى عندما يقرأ موضوعا إنسانيا في صحيفته .. الحمد لله على كل حال .. رددها أكثر من مرة بينه وبين نفسه وهو خارج من الغرفة بعدما أحسن وضع غترته الشماغ البيضاء .. ويده ممسكة بعصاه
أبنته الكبرى لم يدهشها مشهد والدها الحبيب ولم يصبها بصدمة إنما هي تعلم علم اليقين مدى حساسيته ورقة عواطفه عندما يتذكر شيئا ما .. إنما خالجها الفخر والاعتزاز به وبقيمه الإنسانية التي أشاعت في نفسها الفرح به .. وربما شاركها أيضا بقية أخوتها .. لكنها اليوم وربما لاول مرة في حياتها تراه يهرب بعيدا ليداري دموع فرحه وابتهاجه وسعادته بوجوده معهم .. فهو يراهم اليوم امتدادا له واستمرار لمسيرة حياته .. هكذا قال لها عندما أحتضن حفيده الصغير أول أبنائها : الأبناء ياأبنتي نعمة من الله هم امتداد لنا في هذه الحياة ..؟! مازالت كلماته راسخة بل محفورة في ذاكرتها الى اليوم .. وهكذا هو والدها اطال الله في عمره لا يستطيع إخفاء عواطفه ومشاعره .. دائما تظهر تعابيرها على وجهه السمح الودود ..؟!!
جلس الجد .. وهو يغمغم .. طعام طيب .. كنت اود أن اكمل طبق الاستيك لكن الطبيب حذرني من الاكثار من اللحوم الحمراء .. للعمر أحكام كنا ونحن شباب نتسابق على اكل هذه النوعية من اللحوم .. اما اليوم فيكفينا قطعة صغيرة فقط من الاشياء التي نحبها ونشتهيها .. !!
طعام جيد كررها كأنه يحادث نفسه .. وهو يتذكر أول طبق استيك تناوله في مطعم الشركة .. أكله يومها بشهية ولولا الحياء والخوف من نظرات الموظفين والعمال الموجودين في مطعم الشركة لطلب طبقا آخر .. الانسان لا ينسى أبدا أول الأشياء التي تصادفه في حياته .. وهاهو اليوم بعد عقود عديدة يجلس مع أفراد أسرته وفي مطعم راق وعلى بعد خطوات من الظهران .. المدينة التي شهدت شبابه وعمله وعنفوانه وحتى شيخوخته مازال يذكر رائحة (أللين ) الخاصة هي بلا شك رائحة ممتزجة برائحة الغاز في المطبخ المشترك ورائحة الخشب المسقوفة به غرف السكن
فا للخشب عبير عتيق ممتزج برائحة الألوان المطلية به والطابوق وعبق الهواء المختلط بأنفاس المئات من الموظفين الذين يقيمون في هذا الكمب اوذاك .. رائحة مازالت تشعره بالحياة والعافية والعلاقة الحميمة .. كم هي سريعة خطى الأيام أنها لا تسير أنما تركض في اتجاه الغد المجهول لكل منا .. وعلى الرغم من بعد المسافة الزمنية والحياتية مابين أيام الماضي والحاضر والتي تجاوزت الثمانية عقود الا أن ذكريات الماضي تحضره كل لحظة .. مشاهدها .. صورها .. أحداثها .. وكل ما فيها من تاريخ .. كيف لا تنهمر دموعه وهو يشاهد جبل الظهران .. وكيف تطورت المدينة من حوله وتنامت وبدأت بعض الأبنية الأدارية تشمخ في سمو ورفعة .. وكيف تحولت الأحياء السكنية الى حدائق غناء لاأجمل .. هل يقول لهمم كيف كان شعوره عندما أقتربت سيارتهم من بوابة الشركة وكيف شاهد رجال الامن ببزاتهم ومعاطفهم الواقية من الرصاص .. إجراءات أمنية مشددة ومحمودة في مقر أكبر شركة للنفط في العالم بل هي الاولى دون منازع .. شعر بفخروهو يرى رجال الأمن في البوابة .. حراس الوطن وعيونه اليقظة .. هل يقول لاولاده كان يوما ما من رجال الامن .. لقد عمل (سكورتيا ) في بدايات حياته العملية وذلك في احدى البوابات الداخلية .. كانت تمر الساعات تلو الساعات وهو واقف يؤدي عمله .. كانت تسليته الوحيدة كراسة المطالعة التي توزعها الشركة على الموظفين الذين يتلقون برنامجا مكثفا لمحو أميتهم وكان واحدا منهم .. يذكر ايضا أنه يحتفظ بصورة قديمة له وهو يرتدي بدلته الكاكية وغترته البيضاء وشفتاه منفرجتان عن ابتسامة تكشف سنه المكسورة .. التي قام باستبدالها أكثر من مرة خلال العقود الماضية ..مرة بسن فضيه في بيروت .. ومرة بذهبية عندما كان يدرس في أمريكا .. وفي عقده السابع استبدل أسنانه بطقم كامل ..؟!!
ونظر اليهم شعر ببعض الراحة تسري في أوصاله .. هاهي اللحظات السعيدة سرعان ما تمضي لم يبقى على موعد عودتهم الا دقائق .. أمامهم طريق طويل الى الإحساء ..
عندما توقفوا بسيارتهم للتزود بالوقود قال الحفيد لجده وهو يشير الى ملصقات البانزين الخضراء والحمراء التي تغلف مضخات البانزين .. الا ياجدي كيف يتحول النفط الاسود الى بانزين شفاف ..؟؟
تطلع اليه الجد معجبا والابتسامة تعلو وجهه .!! سؤال جميل ياولدي لكن عند عودتنا الى البيت وإذا كان هناك متسع من الوقت أخبرتك عن ذلك ..! والا فغدا لناظره غريب ..
ابتسم الصباح بسعادة .. الجو منعش والقلب يخفق بحب الوطن والأبناء والأحفاد والجد العجوز متمدد على أريكته المفضلة في صالة البيت يطالع تقريرا مصورا عن نفق شارع مكة بمدينته .. كان هذا النفق يوما ما حلما ولله الحمد تحقق هذ الحلم مثل العديد من المشاريع والانجازات الأخرى التي نفذتها الدولة في كل مدينة وقرية من وطن الإسلام والسلام ..
تذكر سؤال حفيده عن ( البنزين ) وكيف يستخرج من النفط . أبتسم وهو يتذكر ذلك فاهتمام حفيده بمثل هذه الاشياء يسعده ويعيده في ذات الوقت ايام طفولته ودراسته وبحثه عن الإجابات لعشرات الأسئلة والاستفسارات التي كان عقله لصغير مشغولا بمعرفتها وسبر غورها .. أتجه لمكتبته وراح يبحث في بعض الموسوعات المتوفرة لديه ..
مشرق كلما وقع نظره عليه .. كم يحبه ويحب استفسارته البسيطة والعفوية شعره الناعم الذي تطل بعض خصلاته من طاقيته البيضاء .. تتكلم عيناه أكثر من شفتاه وبريق ذكائه الطفولي .. بسرعة يحتل مشاعرك ويستولي على اهتمامك .. ليس يدري لماذا يشعر أمامه بالضعف والرغبة في تحقيق مايطلبه منه .. هذا الحفيد الصغير يحتل مساحة كبيرة في قلبه .. جل مافيه حسن مثل كلماته البسيطة المشبعة بلثقة محببة مازالت تحتل لسانه .. غادر ركن مكتبته المرتبة بخبرة دقيقة فهنا كتب الأدب والشعر والى جانبها مجلدات التاريخ والعلوم والقصص العالمية بعضها باللغة الانجليزية في هذا الركن تختلط المعرفة وتفوح منه الثقافة الموسوعية .. عندما جلس بين أفراد أسرته كانت نظراته تبحث عنه .. فلقد احضر له إجابة سؤاله عن البنزين .. قال وهو يحتسي كوب الشاي بالنعناع .مشروبه المفضل :
البنزين والذي يعرف في أمريكا الشمالية بأ سم الجازولين او بترول في اتحاد الكومنولث وفي بعض الدول يطلق عليه ( روح الموتور ) هو سائل خليط مشتق من النفط ويتكون في الأساس من الهيدروكربونات يستخدم كوقود في محركات الاحتراق الداخلي ويستخدم مصطلح الجازولين ياولدي كثيرا في مجال صناعة النفط وحتى بين الشركات التي لا تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية و(جاز ) هو اختصار دارج للمصطلح ” جازولين ” كما موجاز هو مصطلح ” موتور جازولين للتفرقة بينه وبين أفجاز غاز طائرة الذي يستخدم في الطائرات الخفيفة وهذا الكلام ليس من عندي وانما جاء في أحدى الموسوعات العالمية وبالمناسبة اذكر انني قرأت في احد الكتب المتخصصة با لنفط معلومات طريفة ذات علاقة بالبنزين فلا يخفاكم أن النفط اوبالاحرى هذه الأنواع المئة المختلفة التي يتم العثور عليها لاتستخدم كما هي عليه عند استخراجها من باطن الارض لذلك لابد من تطهيرها وتنقيتها من الشوائب وتصفيتها بصورة متكاملة .
كتب ” جان جاك بيري ” في كتابه ( التاريخ العالمي للبترول ” يقول : عندما كان عمال التصفية يقومون بتقطير الزيت الخام المستخرج من الارض كانوا يحصلون حسب انواع السائل على أربعة منتجات رئيسية هي :
1- البنزين القابل للتبخر والانفجاري الذي سيخصص فيما بعد للمحركات الانفجارية
2- الكيروسين او نفط الاضاءة المخصص للفووانيس والمواقد
3- زيت الغاز المخصص للمحركات الثقيلة
4- الزيوت المرسبة ذات الكثافة المختلفة المخصصة للمراجل الصناعية او المنزلية..
واضافة الى هذه المنتجات الاربعة كان يتم استخراج مواد اخرى مثل البرافين والاسفلت المستخدم في تغطية الشوارع والطرق والزيوت والشحوم اللازمة لتشغيل الالات العديدة بالإضافة الى مواد كيماوية اخرى ..
كان الجد يتحدث لافراد أسرته في اجتماعهم المسائي المعتاد .. وبعضهم يسأل نفسه بفخر عما يتمتع به والدهم العجوز من قدرة على الحديث خصوصا وهو أحيانا لايقرأ من كتاب او حتى من ورقة إنما من ذاكرته.. يتحدث لهم مباشرة.. صحييح أن أسلوبه أحيانا غير منهجي ويتوقف احيانا ليتذكر معلومة ما بل أنه لا يتردد أن يؤجل حديثه عن موضوع ما حتى يستطيع أستكمال كل ماله علاقة بموضوعه .. فهو يؤكد على أهمية الامانة في نقل المعلومة اوالاشارة الى كتاب ما ..
وكان يقول لهم بعد كل حديث .. فكروا جيدا فيما اقوله .. ابحثوا عن المعلومة التي ترونها ناقصة في مكتبتي او من خلال الانترنت اوحتى مكتبات الجامعه او الكلية .. من المهم أن تفتشوا مابين السطور لقد تعودت خلال دراستي في امريكا على هذا الاسلوب لقد كان الاستاذ يطلب منا بعد كل محاضرة او درس أن لانكتفي بما نسمعه اونراه أن نبحث ونبحث لتكتمل لدينا المعلومة بطريقة متكاملة فكل يوم يستجد جديد وكل يوم يجب على الواحد منا ان يستفيد ..
وجوههم تحاصره بالشكر والتقدير .. شعر بأنهم يثنون عليه ثناءا عاطرا ولكنه من خلال العيون .. وصمت الجد ..فنظر ت ابنته اليه ومسحة الفرح قد كست وجهه ثم ارتسمت في مخيلتها صورة المرحومة والدتها بقسماتها الجميلة التي يكسوها الفرح الدائم بإنها زوجة لهذا الرجل الذي بدأ عملا صغيرا وبسيطا في شركة النفط ليصبح بعد عقود من كبار الموظفين وحاملي الشهادات الجامعية إضافة الى ثقافته الواسعة .. أحست بلوعة لرحيل والدتها .. تمنت لو كانت حاضرة معهم الآن وتابعت وسمعت أحاديث زوجها عن الأرض الطيبة .. ارض الخير وكيف أبنائها وأحفادها فخورون به .. بل هي أكثر منهم جميعا .. فخرا واعتزازا لقد منحها الامل بعد أن أصبحت أرملة ..لم يشعرها ابدا بأنها وحيدة بعد فقد زوجها لقد اشعرها دائما بأهميتها وكينونتها وأن المستقبل سوف يكون باسما أمامها .. وهاهو ينتظر موافقتها على خطوبة ابو سعد .. كم هو رائع هذا الاب المثالي .. وكم هي تحبه وتحبه ..!!
نفس الازقة المتربة هي بذاتها لم تتغير منذ كان طفلا صغيرا .. هاهو يشاهد باستمتاع شديد مشاهد من مدينته القديمة صورتها كاميرا أبنه ..هاهو يرحل الى الماضي يكاد يسمع صوت خطوات الشيخ وهو يسير فعصاه المصنوعة من الخيزران كانت تنتهي في أسفلها بحلقة حديدية تحدث صوتا له إيقاع مميز مازال يذكره كان جارهم الشيخ عبدالوهاب الذي يحبه ومن اجل هذه المحبة أطلق اسمه على احد أبنائه .. صوت خطواته وعصاه يرتفعان في الفراغ المفتوح على فضاءات زقاق ( الفريج ) حتى تلامس خطواته ..خطواته الطفولية الوئيدة عندما يصادف مروره الى جواره .. صوته الرزين وهو يسأل عن والده رائحة العود التي تفوح من غترته تغمره السعادة كلما صادفه في الطريق اوفي مجلس عمه .؟! مره كان قد وصل الى تفرع الزقاق باتجاه المسجد .. الشمس تشرق بعذوبة فالجو بارد قليلا وعلى اليمين واليسار جدران الزقاق المبنية من الطين المخلوط بالقش وحول الابواب والنوافذ تم تكسيتها بالجص الابيض لتشكل منظرا جميلا للجدران وهي ترنو للحياة في سكون عميق ..!! صوت المؤذن في مسجد طاهر .. الله اكبر .. الله أكبر .. يثير في نفسه شيئا من القدسية والروحانية معا وكان لهذا الشيخ الجليل أثرا كبيرا في حياته الطفولية فأسمه له وقعه الكبير على ابناء الحي ( الفريج ) وكان يهابه الجميع رجالا ونساءا بل أن تأثيره يمتد حتى الاحياء الاخرى .. يقال أنه كان يوما ما من الرجال الفرسان الذين وقفوا أمام العسكر عندما كانوا متواجدين في هذه الارض الطيبة .. بل أنه كان من رجال المقاومة السرية التي أزعجتهم كثيرا وعلى الاخص في طريق العقير عندما كان رجال المقاومة يقطعون الطريق امام قوافل العسكر المحملة بالسلاح والذخائر والقادمة من ميناء العقير .. كانت هذه الخواطر كلها تجد طريقها الى نفسه وهو يشاهد الفيلم الذي يصور جانبا من مدينته القديمة فتملؤها سعادة وغبطة وإحساس بعظم تاريخ مدينته ورجالها البواسل .. بل تنسيه هذه الخواطر تعب الحياة والركض وراء لقمة العيش وكيف تواصلت الايام وتصالحت معه كثيرا بعد ما واصل دراسته خلال عمله في شركة النفط وحتى بعد تقاعده .. مكتسبات كثيرة تحققت له في هذه الحياه أهمها أبنائه وأحفاده ..
التفت الى أبنه وشكره على هذا الفيلم الجميل والذي يوثق جماليات وتاريخ المكان وراح يعلق باقتضاب على أهمية التصوير وما يشكله من علامة بارزة في تاريخ التوثيق وكيف أن شركة ارامكو تملك كنزا كبيرا من الصور والافلام عن المنطقة بل المملكة وحتى الخليج والتي تجسد بدايات نشاطاتها منذ لحظة وصول الجيولوجيون الأوائل الى المملكة في الثلاثينات الميلادية والى اليوم .. واستطاعت هذه الصور ماكان منها بالأسود والأبيض او ملونة أن تساهم في عملية التخطيط العمراني والهندسي لاعتماد الامانات والبلديات على جوانب عديدة من الصور التي التقطتها عدسات مشاهير المصورين الاجانب وحتى السعوديون بعد ذلك خلال اعدادهم لبعض المخططات التطويرية والتنموية إضافة الى كونها تشير الى أملاك الاخرين خصوصا الصور الملتقطة من خلال الطائرات .. والتي بينت الغابات والحقول والبساتين والمزارع التي تحيط بمدن الإحساء والقطيف والجبيل والخبر والدمام والعقير .. مناظر وصور رائعة مازالت مشاهدها خالدة في صور لا أجمل ..؟!!
سألته زوجة ابنه عاشقة التصوير : الا ياعمي لماذا لاتكتب كتابا عن ذلك فالمعلومات التي لديك عن التصوير وبداياته في المنطقة بل المملكة تستحق أن توثق أيضا في كتاب ..؟
فابتسم وقد أمسك بعصاه الأبنوسية .. لم يبقى يا أبنتي أكثر مما مضى .. لدي كتابات عديدة عن تجربتي في الحياة ومن ضمنها جانب عن هواية التصوير التي تعلمتها خلال وجودي في بيروت وبعدها أمريكا ..
با مكانكم الرجوع لما كتبته للاستفادة من بعض مما جاء في هذه الكتابات ومضت فترة والجد العجوز يحاول إيضاح جوانب أخرى عن هوايته في التصوير وكيف نافست فترة من الزمن هوايته للقراءة والاطلاع . بل أنه لم يتردد أن يطلب من أبنته إحضار البومات الصور التي يحتفظ فيها بمئات الصور التي التقطها خلال العقود الماضية خصوصا أيام دراسته وشبابه .. تذكر وهو يقلب صفحات الألبومات إنه فقد الكثير من صوره القديمة عندما انتقل الى بيته القديم فلقد وضع ثقته في غير محلها عندما اعتمد على احد معارفه في الأشراف على نقل الأثاث والمقتنيات الخاصة .. نظرا لانشغاله بمأمورية عاجلة تتعلق بعمله .. حينها فقد أكثر من (كيسة) قماشيه كانت تحتوي على عشرات الصور والأفلام التي التقطها خلال شبابه .. كان فقد هذه الصور يومها مصيبة ما بعدها مصيبة .. حتى إنه يذكر إنه قاطع من وثق فيه لعدة شهور نتيجة لكونه لم يكن عند حسن ظنه وتسبب بطريقة او بأخرى في فقد ما فقد من صور ومسودات أفلام كانت هامه وتاريخية بالنسبة له . .. ولكن عادة تكون المصيبة كبيرة في البداية بل عظيمة ويوما بعد يوم تتلاشى وهكذا هي الحياة .. حمد الله في سره وهو يطالع صوره مع أفراد أسرته إنه لم يفقد أيضا هذه الألبومات فتحقق المثل الشعبي ( العوض ولا الحريمه )
نظر الجميع اليه في صالة البيت الكبير كان يتصدر الكنبه الكبيرة الممتدة بجوار النافذة الشرقية مكانه المفضل وبين الكنبة الكبيرة الأخرى طاولة تحتل زاوية الصالة وضعت عليها بعض كتبه والنظارة الطبية الاحتياطية .. نعم نظارة احتياطية فلقد تعلم الجد أن يحتاط ومنذ بدأ في استعمالها أن تكون لديه أكثر من نظارة من باب الاحتياط .. فقبل عقود تعرضت نظارته للكسر في نهاية الأسبوع مما اضطره الى الانتظار لعدة أيام حتى استطاع أخصائي النظارت أعداد نظارة أخرى ما جعله يقرر من ذلك اليوم أن يحتفظ بأكثر من نظاره .. إ نجذ بت العيون الي صوره التاريخية الشخصية .. صورة داخل مكتبة الشركة واخرى داخل صالة التدريب والدراسة وثالثة وهو بجوار الشاحنة ( الماك ) العملاقة التي كانت تنقل الموظفين والعمال من الاحساء الى الظهران ورابعة وخامسة .. صور عديدة ومختلفة تصوره في أماكن عمله داخل الشركة وخارجها بل وصوره في بيروت والمدن الأمريكية التي زارها وتردد عليها خلال دراسته هناك .. كان الحديث يدور عن بعض الصور وعلاقتها بالمكان والحياة في أمريكا في أواخر الخمسينات وبداية الستينات الميلادية .. وبذهول تام راحوا يستمعون اليه وهو يشرح بعض المشاهد في الصور الجميلة على الرغم من كونها في الغالب باللونين الأسود والأبيض .. الا أنها معبرة وتاريخية وهم يشاهدون والدهم وهو في عز شبابه مرتديا الملابس الغربية بل والقفازات في يديه والا يشارب الصوف يحيط رقبته وهو يمسك بيده اليمنى بقطعة ثلج يداعب بها احد زملائه ويده اليسرى تمسك بكتاب كانت الصورة كما يقول في واشنطن العاصمة وتبدو من الخلف بصورة واضحة مباني البيت الأبيض المعروفة ..
هبت أبنة شقيقه واقفة وتحول وجهها كله الى ابتسامة واسعة وعريضة وقالت الا ياعمي تقدر تقول لنا عن ماذا كان يحتوي هذا الكتاب الذي كنت ممسكا به بيدك ..
بأ مكانك الاطلاع عليها وقراءتها ..!
أتسعت عيون الجميع وهم يستمعون اليه .. واذا بأ بنته تقول :لم تحثنا كثيرا عن امتياز ارامكو للنفط .. اكيد قرأت عنه في كتبك العديدة ..؟ تطلع اليهم لحظة في صمت ثم قال : كان امتياز هذه الشركة العملاقة يعتبر اعظم امتياز على مستوى العالم وحسب ماجاء في كتاب ( النفط ) للدكتور هاني حبيب يقول عن هذا الامتياز : أخذت السعودية تعمل منذ عام 1974 بمبدأ المشاركة بـ 60% في ارامكو ولكنها في نهاية عام 1974 أبلغت الشركات الامريكية في ارامكو : أكسون وموبيل وتكساكو وشيفرون أن 60%لست كافية وفي الوقت الذي أبدت الشركات الامريكية رغبتها في التفاوض والحوار تمسكت بالامتياز حتى النهاية ..؟!!
واستطرد يقول: وكان بحق الامتياز الاغلى في العالم ومارست السعودية الضغط الاقتصادي بإ صرار للحصول على مطالبها ما ادى الى موافقة الشركات على الطلب السعودي من حيث المبدأ وبعد مفاوضات استمرت سنة ونصفا تحول المبدأ الى ممارسة فعلية بعد ان اتفق الطرفان على المسائل المالية والأمور الحاسمة وتم التوصل الى اتفاقية في ربيع عام 1976م ..
ويضيف الجد قائلا : لقد أشار الدكتور حبيب في كتابه الى أن الاحتياطات المؤكدة كانت 149 مليار برميل من النفط أي أكثر من ربع مجموع الاحتياطات في العالم وبموجب الاتفاق الجديد الغى الامتياز الى الابد وبناء على الاتفاقية الجديدة ستستولي السعودية على كل أصول وحقوق أرامكو داخل السعودية وتستمر أرامكو بالعمل مقابل 21سنتا للبرميل مقابل خدماتها وتتولى تسويق 80% من النفط السعودي ودفعت السعودية عم 1980م لأرامكو تعويضا عن كامل ممتلكاتها في الداخل وأصبحت السعودية المالك الحقيقي لكامل ثروتها النفطية وحققت سيادة مطلقة وسيطرة عليها .ولكن السعوديين لم يوقعوا على الاتفاقية حتى عام 1990م أي بعد 14 عاما على الاتفاق عليها وتأكد لهم خلال هذه الفترة السيطرة الكاملة على نفطهم وحققوا إنتاجا بلغ حوالي 33مليار برميل من النفط حقق عائدا أكثر من 700مليار دولار ..
يبتسم وهو يلتفت تجاه التلفزيون .. إنها الأخبار تتحدث عن قمة أوبك الثالثة والتي سوف تعقد في الرياض .. يتذكر وهو يتابع الأخبار عبد الله الطريقي أول وزير للنفط في المملكة .. والذي كان يتسم بتوجهاته الوطنية إضافة الى تميزه العلمي كونه من أوائل الشباب السعودي المتخصص في مجال الكيمياء والجيولوجيا بل إنه عمل خبيرا في شركة تكساكو الأمريكية قبل عودته للمملكة عام 1948م يذكر جيدا مشاركته الرائعة في أول مؤتمر عربي للنفط عقد في القاهرة عام 1959 م وكيف كان يتابع بإعجاب كبير نشاطاته وفعالياته من خلال الصحف الأمريكية التي غطت المؤتمر ..
قالت أبنته وهي تقدم له فنجان القهوة :
يبدو أن أخبار قمة أوبك أبعدتك عنا .. يبدو أن النفط وأخباره سيطرأ على ذهنك .؟
أجابها باسما .. النفط سيطر على العالم .. ما يسيطر على وعلى تفكيري ..إنه حديث الساعة بل كل ساعة .. ثم صمت وهو يمعن النظر في وجهها الجميل ,ثم قال وهو يعد بصره نحو التلفزيون :
أن اجتماع قمة أوبك في الرياض حدثا غير عاديا ويشكل نجاحا كبيرا للدبلوماسية السعودية وفي مختلف المجالات .. أن العالم يتابع الحدث باهتمام بالغ .. خصوصا وأسعار النفط قد تجاوزت هذه الأيام في نظر المراقبين اسعارا غير مسبوقة ..!
بعد تناول العشاء .. شعر بقواه خائرة وبجسده كسولا .. ورأسه ثقيلا كان يحس بحاجته الشديدة للنوم على الرغم من أن الساعة الآن التاسعة والنصف ليلا .. قام متثاقلا وهو يعتمد على عصاه الابنوسية . ذاهبا الى غرفته .. دخل حمام الغرفة .. تمدد على سريره . أسند ظهره على الوسادة .. وضع نظارته جانبا وراح يفكر فيما مضى من زمن أيام طفولته .. تلك الأيام القاسية جدا والتي تعلم منها الكثير .. والتقى فيها بالكثير من ابناء مدينته في المطوع وفي مسجد ( الفريج ) وبعدها في ارامكو.. وحتى خلال دراسته في الخارج وبعدها العمل .. أنه يرى ازقة حارتهم امام عينيه بيوت الطين والطرق المتربة . رائحة روث البهائم في الطرقات .. صرير عربات ( القواري ) احتضار الفراخ المذبوحة عند عودته الى بيته من الظهران .. مناسبة اللقاء مع اسرته لا أروع منها الا روعة هذه الايام التي يعيش لحظاتها مع أولاده وأحفاده .. كم هي قصيرة رحلة الحياة .. حمد الله كثيرا وشكره على ما أنعم به عيه وأطبق جفونه تحت الحاح رغبة جارفة للنوم ..
أمضى الجد نهاية هذا الأسبوع وهو متوتر من شدة الفرح فلقد وافقت أبنته حبيبته ألارملة على الزواج من أبي سعد .. لوكان شابا او حتى في حيوية منتصف العمر لقفز .. لكنه سعيدا جدا رغم توتره .. فهو ليس كعادته .. يا طالع من الغرفة .. ويا داخل الصالة .. حتى صحف اليوم لم يطالعها كالعادة .. اكتفى فقط بالعناوين .. حتى أبنته أخذت تغير من وضع حجابها, شعر بأنها تشاركه نفس التوتر والقلق البهيج مثل الذي يسبق استقبال الفرح ..
المشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء مستعارة لاتمثل الرأي الرسمي لصحيفتنا ( المواطن اليوم ) بل تمثل وجهة نظر كاتبها
اترك تعليق على الخبرالمواطن اليوم اطلع صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن طلال بن بدر محافظ الأحساء ، في مقر المحافظة اليوم ” […]
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
بقلم :
س | د | ن | ث | أرب | خ | ج |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 |
8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 |
15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 |
22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 |
اترك تعليقاً