د. عبد الله المغلوث
عملت قبل عدة سنوات مع شخص يردد دائما عبارة، “مع احترامي لك” في حواراته. ومع مرور الأيام أيقنت وزملائي أن كل ما سيندلع من لسانه بعدها شتيمة وهجوم شخصي وكلام لا يمت للاحترام بصلة. فهذه العبارة الافتتاحية هي بمنزلة الهدوء الذي يسبق العاصفة الكلامية التي ستجتاح الحوار وتشتته وتبعثره وتودي بحياته. ظللت فترة طويلة أظن أن هذا الزميل هو من القلة القليلة التي تستخدم هذه العبارة على هذا الوجه البشع، لكن اكتشفت أن كثيرين يفعلون مثله وأكثر. لقد أصبحت الشرارة التي تشعل أي نقاش وتحرقه بأقذع الألفاظ وأسوأها. وباتت مصدرا لتشويه مفردة الاحترام فمع الأسف أصبح كل ما يلي “مع احترامي لك” خاليا من الاحترام إلا ما رحم الله.
وإذا كانت مع “احترامي لك” تكفُر بما بعدها فـ “لكن” عند بعضنا تكفُر بما قبلها.
لدي رفيق دراسة عندما يشرع فيمدح أي شخص أضع يدي على قلبي حتى لا يتبع إشادته بـ “لكن”؛ لأني أعلم تماما أن كل ما سيقوله بعدها انتقاد يصل إلى حد الانتقاص. لا أتذكر مرة واحدة تناول فيه اسما دون أن يمنحه مقدمة (أفلاطونية) ثم يقدحه بشراسة وإسهاب تجعلني أنسى تماما كل كلمة جميلة ذكرها في حقه. ولا أتذكر سوى الظلام والسواد الحالك.
سألته مرة عن أستاذ جامعي قبل أن أستوعب وأعي أسلوبه ومنهجه فامتدحه قائلا، “أستاذ ممتاز جدا. يشرح بطريقة سهلة، ومباشر في الأسئلة ولا يراوغ، ونبرة صوته عالية تسمعها حتى لو كنت في آخر صف في القاعة. يجعلك تحب مادته إثر إخلاصه في الشرح واستشهاداته الممتعة”. انفرجت أساريري وكادت الدمعة تسقط من عيني فرحا بوجود مثل هذا الأستاذ في كليتنا. بيد أن فرحتي لم تكتمل، إذ عصف بكل ما تقدم عندما قال لي، “لكن يا عبدالله، احذر من هذا الأستاذ فقلبه أسود، ولا يتعاون مع الطلاب، ولا يرحمك لو غبت حتى لو بعذر، يريدك كالآلة تعمل بلا كلل ولا ملل. ولا يتقبل أي نقاش أو حوار”. فرددت على رفيقي قائلا، “رغم كل هذا تنعته بالممتاز. ما أطيبك يا نواف”. فعلق وهو يعبث بجواله، “الشكوى لله”.
المثير في الموضوع أنني درست لاحقا مادة مع هذا الأستاذ واكتشفت أنه مميز علما وعملا وأخلاقا ولم أر حقا الجانب المظلم الذي استعرضه رفيقي السابق.
وتعلمت بعد هذا الموقف وغيره من المواقف المشابهة ألا أصدق الأشخاص الذين يسرفون في استخدام “لكن” ويشوهون أي جمال. ومن قال “لكن” أثناء حديثه عن غيرك سيقولها أثناء حديثه عنك يوما ما.
اترك تعليقاً